الأكيد أن الولايات المتحدة الأميركية لا تُشكّل سياستها وفقًا للإدارات الرئاسية المتعاقبة «الرُباعيّة أو الثُمانيّة»، بل من خلال استراتيجيات مُحكَمة تتموضع حولها الكثير من السياسات المترابطة التي لا تسمح بأي عمل خارج الإطار العام للخطط الموضوعة، لكن الأكيد أيضًا أن تلك الاستراتيجيات تحوي في قطرها الموسّع مسطرةً ممتدةً من الأفعال تتماثل في نتائجها من دون أن يمنع ذلك وجود منسوب من التباين للسياسات وإدارة الصراع من مرحلة إلى أخرى وتبعًا للمواقف والحوادث؛ لذلك فإن من غير المتوقع أن يكون التخالف الحاصل بين الإدارة الأميركية في عهد الجمهوري جورج دبليو بوش وتلك التي كانت في عهد سلفه الديمقراطي بيل كلينتون هي الفارق الذي يُمكن أن يُبنى لبرزخة السياسات الديمقراطية والجمهورية في الولايات المتحدة الأميركية منذ أن نشأن الحزبان فيها، بقدر ما يُعطي دلالةً على إمكان اللعب داخل المنطقة المشتركة للأهداف ومتعددة الوسائل والمسالك.
في عهد الرئيس كلينتون وتحديدًا في العام 1993 أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن تقريرًا بعنوان «ثورة التقنية العسكرية... إطار بنائي» كرؤية مُفترضة حتى العام 2010، ركّز فيه على المصالح القومية الأميركية، التي تبدّلت بفضل عوامل مختلفة منذ العام 1945 لغاية العام 1985، وما يُواجهها من تهديد تمّ تلخيصه في الآتي: الأول، ظاهرة انتشار أسلحة الدمار الشامل، والثاني، الاقتصاد الأميركي وما يتطلبه ذلك من سياسات خارجية ودفاعية من خلال دعم الاستقرار الإقليمي المُساعِد على جذب المزيد من الشراكة الاقتصادية، والثالث، تشجيع الديمقراطية في روسيا وأوروبا الشرقية؛ لتقوية فرص سلام طويل الأمد في القارة الزرقاء، والرابع، فرض معايير السلوك على الدول من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية، والخامس، الحفاظ على سمعتها كحليف يُعتمد عليه. وإذا ما بُنِيت تلك الأجندة على واقع اليوم الأميركي، فإن الصورة قد تكون ملتصقةً إلى حد كبير بالتوجهات اليمينية الحالية.
إيران والديمقراطيون
في الفترة التي كان فيها الحزب الديمقراطي على رأس الإدارة الأميركية في فترة التسعينات، تميزت تلك المرحلة بملامح سياسية أميركية خاصة تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية يُمكن الإشارة إليها كالآتي:
1- ظهور «سياسة الاحتواء المزدوج» (DUAL CONTANINMENT) التي صاغها السفير اليهودي مارتن إنديك تجاه إيران والعراق معاً، إلاّ أنها فشلت بسبب عدم التزام الأوربيين بها واختطاطهم «سياسة الحوار النقدي» (CRITICAL DLALOJUE) بينهم وبين الإيرانيين، والتي تزامنت إلى حد كبير مع التوجهات الأميركية الجديدة ابتداءً من العام 1993.
2- تشريع قانون «داماتو» في العام 1996، والذي مُدّد العمل به مدة خمس سنوات في العام 2001 والقاضي بمنع الشركات من الاستثمار بأكثر من 40 مليار دولار في القطاعات النفطية الإيرانية، مع استمرار تجميد الأرصدة الإيرانية العائدة إلى صفقات السلاح بين الحكم الشاهنشاهي وإدارة الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر.
طبعاً، إن جميع المؤشرات كانت تفيد حينها أن إدارة كلينتون لم تنجح في احتواء إيران أو إعاقة سياستها الخارجية عن طريق «الاحتواء المزدوج»، كما أنها لم تنجح أيضاً في تدمير الاقتصاد الإيراني عبر قانون «داماتو» بعد التمرد الكبير الذي قادته شركة توتال الفرنسية وبعض الشركات الماليزية، ما شجّع الكثير من الشركات الأخرى على الاستثمار في إيران مثل: شركة شل البريطانية، كما أن ظهور الإصلاحيين في العام 1997 والمبادرة التي أطلقها الرئيس الإيراني السابق السيدمحمد خاتمي لحوار الحضارات قد ميّعا إلى حد كبير السياسة المعادية من قِبَل الولايات المتحدة تجاه إيران، على رغم أن ذلك التمييع ربما فرض نفسه بفعل عوامل أخرى أو من خلال أوراق ضغط مُتحصّلة لدى الإيرانيين في المنطقة وشرق آسيا.
اليوم وبعد سيطرة الديمقراطيين على الكونغرس وتعزيز موقفهم في مجلس الشيوخ، فإن الإيرانيين ينظرون إلى الحدث باهتمام بالغ، بل إنهم قد لا يُخرجونه من دائرة الصراع الذي بدأ بينهم وبين الإدارة الحالية، والذي اتّسم بالحدة في مواطن كثيرة بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول من العام 2001، وهو ما عبّر عنه المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله السيدعلي الخامنئي عندما قال: «إن هزيمة الجمهوريين تشكل انتصارًا لإيران، وهي ليست فقط حادثًا محليًا، إنها هزيمة للدعاية الحربية والسياسات العدوانية للرئيس الحالي». وبعيداً عن ذلك فإن الإيرانيين ينظرون إلى الحدث على أنه:
أولاً، إعادة ضبط الدين في المجتمع الأميركي بعد أن أشارت التقديرات إلى أن أكثر من 70 مليون أميركي هم محافظون (Evangelicals) وأن 60 في المئة من الأميركيين يرون أن النبوءات في سِفر الرؤيا (العهد الجديد) ستتحقق بحسب استطلاع أجرته صحيفة «التايمز» وشبكة «سي إن إن» الإخبارية، وبالتالي فإن العالم ينتهي ويعود المُخلّص، أو المُسَيَّا لينقذ الصالحين! إن هذه الرؤية الدينية المتعاظمة للكثير من المسيحيين في الولايات المتحدة الأميركية تُشكّل خطراً على طهران، التي ربما يتحول الصراع بينها وبين واشنطن من صراع سياسي إلى صراع ايديولوجي وديني محض بدأت بوادره التشكّل أصلاً تجاه الكيان الصهيوني والعراق، لذلك فإن قدرة الديمقراطيين على إبعاد برامج وسياسات تديين السياسة الأميركية وتوجهاتها سيُقلل كثيراً من فرص التصادم مع طهران. ثانياً، يرى الإيرانيون أن فوز الديمقراطيين سيعيد خلط الأوراق من جديد فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، الذي هو في حقيقته اليوم شبه مُؤجّل ولو بفعل البيروقراطية الإدارية «المقصودة» في المحافل الدولية أو لدى وزراء خارجية الدول العظمى. مع الإشارة هنا إلى أن الزحاف المتكرر والمضطرب في مواقف الدول الأوروبية ما كان ليتم في المرحلة التي تلت «اتفاق باريس»، لولا الضغوط الأميركية الكبيرة على الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإن مجيء الديمقراطيين ربما يعيد سيناريو الديمقراطيين في عهد الرئيس كلينتون.
ثالثاً، قد يقود فوز الديمقراطيين - بحسب وجهة النظر الإيرانية - إلى عودة واشنطن إلى الاهتمام بالنواحي الاقتصادية وزيادة وديعتها في حركة التجارة النفطية بأقل قدر ممكن من القيود، وبالتالي إمكان إيجاد فرص أكبر لدى الشركات الأميركية أو السماسرة الموجودين في ألمانيا وفرنسا، وخصوصاً مع ارتفاع احتياطي العملة الصعبة لدى طهران بنسبة 150 في المئة بعد ارتفاع أسعار النفط قبل أشهر. كما أن وقوع إيران بين الصين والهند من جهة وبين شمال أوروبا والغرب عموماً من جهة أخرى، يُشكّل فرصةً أكبر لحركة تجارية نشطة ينشدها الديمقراطيون
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ