ليس المقصود صانعو الحبال، وإنما صائدو العصافير! والكلمة مأخوذة من «الحَبَال»، وليس «الحِبال»، وهي الطريقة التقليدية التي ظلت تُمارس منذ قرونٍ في صيد العصافير حتى ما قبل عقدين، قبل أن تتعرّض المساحة الخضراء المزروعة المتبقية إلى حرب إبادة، بما فيها من نباتاتٍ وطيورٍ وعصافير.
و«الحَبَال» طريقةٌ تقليديةٌ ربما تعود إلى آلاف السنين، ولدينا شاهدٌ شعريٌ قديمٌ يعود إلى ما قبل الإسلام، نجده في أشعار الشاعر «البحريني» القديم طَرَفَة بن العبد بن سفيان بن سعد البكري الوائلي، الذي استطاع أن يحجز له مكاناً خاصاً بين شعراء المعلقات السبع، على رغم انه قُتل وهو في سنّ السادسة والعشرين فقط، على يد ملك الحيرة عمرو بن هند، حتى عُرِف بـ «الغلام القتيل». بل ان بعض النقّاد ذهب إلى تفضيل معلّقة طرفة على جميع الشعر الجاهلي بفضل ما تحويه من نزعةٍ إنسانيةٍ واضحةٍ وعميقة.
طرَفَة يبدو انه كان من هواة صيد العصافير، وقد اعتاد وضع الفخ في أحد البساتين، (ربما في الشريط الشمالي من جزيرة البحرين، أو بأطراف المحرق أو المنطقة الغربية أو سترة... حيث تكثر البساتين والنخيل). وهناك كان يتربّص بالعصافير حتى تدنو من الطعم. ولكنه في إحدى المرات ابتلي بـ «قُبّرة» حذِرة، كانت تحوم حول الفخ وتلتقط الحَبَّ من دون أن تقع فيه، حتى نفد صبره ومال على الفخ ينتزعه وينفض عنه التراب، وذهب إلى البيت... أو ربما ذهب إلى «الخمارة» ليدفن في الكأس همّه!
الشاعر الذي عانى من مرارة اليتم وظلم ذوي القربى، وشارك في حرب البسوس الطاحنة كما في بعض الروايات التاريخية، إلاّ أن هذه الحادثة الصغيرة خصوصاً أثّرت فيه كثيراً على ما يبدو، بدليل انه أنشد شعراً مازلنا نذكره ونستشهد به لطرافته ودلالاته وجمال موسيقاه:
يالكِ من قبّرةٍ بمعمرِ
خلا لكِ الجو فبيضي واصفري
ثم يرسل للقُبّرة رسالةً فيها تطمينٌ لتأكل ما تشاء من الحَبّ:
ونقّري ما شئتِ أن تنقّري
قد رحل الصيّادُ عنكِ فابشري
أجمل ما في القصة دلالاتها وظلالها، فإلى جانب ما تعكسه من صورٍ بيئيةٍ في ذلك الزمان، فإنها تعكس أيضاً مشاهد ولوحات من الحياة، حتى تكاد ترسم لنا لوحةً زيتيةً لطريقة الصيد. هذه الطريقة التقليدية ظلّت متوارثةً آلاف السنين، لم يدخل عليها إلاّ القليل من التطوير على أجزاءٍ من الفخ الخشبي البسيط. أما فكرة «الحَبَال» فقد دخل عليها الكثير من التطوير و«التفنن» و«الإبداع». فإذا أردت أن تصطاد كرسياً، أو منصباً، فعليك أن تحبل له منذ سنوات، تعدّ العدة، وتنصب الفخ، وتنتظر وراء الأكَمَة، والأهم أن تتحلّى بالصبر وطول البال أربع سنين حتى تكتمل الدورة التاريخية من جديد، فما أكثر الفخاخ المنصوبة، وما أقل الطيور، وما أحذر القبّرات في هذا الزمان، خصوصاً أنك لست وحدك... فما أشد المنافسة، وما أكثر «الحبّالين» الذين زادت طوابيرهم على أعداد العصافير!
أما الطُعْم، فهنا يكمن الإبداع، و«أنت وفنّك»، يمكنك أن تكتب مقالاً فيه كميةٌ زائدةٌ من الغزل، أو تلقي قصيدةً مشحونةً بالمدح الذي لا يصدّقه حتى الممدوح، أو تهاجم شخصيةً وطنيةً ذات تاريخٍ نظيف وأنت وما تختار! بعضهم فاز، وبعضهم حَبَل وفشل، والعوض على الله! وكما قال شاعرنا طرفة:
ستبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ
لما بعثه ملك الحيرة إلى عامله على البحرين ليقتله، خيّره الأخير قائلاً: «إني قاتلك لا محالة، فاختر لنفسك ميتةً تهواها»، فقال طرفة: «إن كان ولابدّ فاسقني الخمر»، ليقتل دون أن يحس بالألم! وكانت آخر وصيّته للقبّرة:
قد رُفع الفخُ فماذا تحذري
لا بد من صيدِكِ يوماً فاصبري
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ