عودًا إلى العام 2004... في مطلع ذاك العام سربت صحيفة «الحياة» اللندنية وثيقةً قالت إنها حصلت عليها بعد أن وزعتها الإدارة الأميركية على المسئولين في الدول الصناعية الكبرى (مجموعة الدول الثماني) الذين كانوا سيجتمعون في يونيو/ حزيران 2006 في قمتهم المخطط لها في «سي آيلاند» بولاية فلوريدا الأميركية. الوثيقة تتحدث عن إعادة صوغ الشرق الأوسط جغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا وعسكريًا، وتطلب من الدول الثماني مشاركة الأميركان في تنفيذ هذا المخطط على أساس اتفاق «متعدد الأطراف» بدلاً من أن تتكفل أميركا بالقيام بذلك بصورة منفردة (أحادية الأطراف).
الوثيقة تقول إن الشرق الأوسط سيعاد تسميته بـ «الشرق الأوسط الكبير» وإن جغرافيته ستشمل كل شمال إفريقيا، و«إسرائيل» والبلاد العربية وإيران وباكستان وأفغانستان. أما تركيا فلا يمكن ضمها إلى هذه المنطقة؛ لأنها لا ترغب في ذلك، وهي منذ سنين تحاول لصق نفسها بالاتحاد الأوروبي، وتحلم بأن يعتبرها الآخرون «دولةً أوروبيةً».
أحدثت الوثيقة ضجةً كبيرةً، وبدأ الناس منذ مطلع العام 2004 يربطون تسمية «الشرق الأوسط الكبير» بالمخطط الأميركي الجديد لمنطقتنا. وعندما اجتمع الرئيس الأميركي جورج بوش مع نظرائه في يونيو 2004 انطلقت الخطة الجديدة ولكن مع بعض التعديل... فالاسم الجديد لمنطقتنا أطلقوا عليه «الشرق الأوسط الموسع وشمال إفريقيا، واختصارًا باللغة الإنجليزية «بي. مينا»، ولكن سياسيًا وعالميًا بقي الاسم القديم هو المستخدم، والإعلام والتحليلات فضلت البقاء على تسمية «الشرق الأوسط الكبير».
سياسيًا، تم الاتفاق بين الدول الثمان على تأسيس «منتدى المستقبل» ليجمع مسئولي تلك الدول بمسئولين من دول المنطقة (من الذين يوافقون على الدخول في المبادرة) بهدف تطوير النظم والممارسات السياسية نحو الفهم الأميركي للديمقراطية. وهكذا انعقد «منتدى المستقبل» في المغرب في نهاية العام 2004، وفي البحرين في نهاية العام 2005، وفي الأردن قبل أيام. وبينما كان الحديث كثيرًا عند انعقاد المنتدى في المغرب ومن ثم في البحرين، فإن انعقاده في الأردن في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي ومطلع ديسمبر/ كانون الأول الجاري كان من دون أثرٍ، وهناك من اعتبره - أي اجتماع الأردن - «قراءة الفاتحة» على «منتدى المستقبل».
الأميركان حركوا الكثير من الجهات لدعم هذه المبادرة الجديدة. فمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (نادي الأغنياء) أعلن مبادرته في العام 2004 لمساعدة حكومات المنطقة على «مأسسة ممارسة الحكم الصالح»، وانطلقت فرق عمل من خبراء هذه المنظمة الغنية جدًا تجتمع بمسئولي البلدان العربية هنا وهناك... وسرعان ما ظهرت إلى الإعلام اجتماعات عدة بهذا الشأن، ولكنها سرعان ما اختفت أخبارها.
المنتدى الاقتصادي العالمي (منتدى دافوس) تحرك بقوة لتنشيط أصحاب الأعمال في منطقتنا وساعد على تأسيس «مجلس الأعمال العربي» في العام 2004، وانعقدت مؤتمرات مهمة جدًا جمعت عددًا كبيرًا من دول الشرق الأوسط الكبير في الأردن ومصر، وطرحت أفكارًا مبدعةً لم تجد أكثرها طريقًا إلى التنفيذ.
حلف شمال الأطلسي (الناتو) أطلق «مبادرة اسطنبول» في يونيو من العام 2004 بهدف دخول المنطقة عسكريًا ومساعدة دولها في مجال الخبرات الأمنية والعسكرية والرصد والتحليل الاستراتيجي، وأعلن «الناتو» أنه يسعى إلى «إقامة تعاون عملي في المجالات الأمنية والدفاعية لتعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط من خلال التزام أميركي أوروبي جديد يوفر نصائح خاصة لكل دولة تتصل بإصلاحات تتعلق بمجال الدفاع وتشجيع التعاون العسكري ومحاربة الإرهاب عبر تبادل المعلومات ومكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل». وبدأ «الناتو» أنشطته في أفغانستان، وفي نهاية هذا العام من المتوقع أن يدخل الخليج مع توقيع اتفاق مع الكويت بهذا الصدد.
الرئيس الأميركي أعلن أنه سيربط «الشرق الأوسط الكبير» مع أميركا اقتصاديًا عبر توقيع اتفاقات للتجارة الحرة بصورة ثنائية مع كل دولة، على أن يطرح تكاملاً بين جميع الدول الموقعة في العام 2013... ولدى أميركا اتفاقات تجارة حرة حاليًا مع المغرب والأردن والبحرين وعمان، وهناك اتفاقات تجارة حرة (كويز) تجمع بين أميركا و»إسرائيل» من جانب وكلاً من مصر والأردن من جانب آخر.
المسئولون الأميركيون بدأوا يلقون محاضرات في الديمقراطية على مسئولي وشعوب «الشرق الأوسط الكبير»، واعتبروا أن الانتخابات الأفغانية والفلسطينية والعراقية التي استكملت في مطلع العام 2005، وما حصل في لبنان من خلال طرد القوات السورية، البداية الفعلية لعصر ديمقراطي تقوده أميركا في الشرق الأوسط، وأن الأميركيين لا يخشون من وصول الإسلاميين عبر الانتخابات مادام الإسلاميون يوافقون على أصول اللعبة الديمقراطية.
ننتقل بسرعة إلى «الشرق الأوسط الكبير» في 2006... فلسطين التي انتصرت في الانتخابات دمرتها «إسرائيل» بمساعدة أميركا، والعراق يتآكل طائفيًا ومهدد بالتقسيم، وحقوق الإنسان ضاعت في التعذيب في سجون أبو غريب وغوانتنامو وفي اغتصاب النساء على أيدي أفراد منفلتين من القوات الأميركية في العراق لا يعلمون لماذا رمتهم حكومة بلادهم في بلد مثل العراق. أفغانستان لا تشهد استقرارًا، بل إن هناك حديثًا عن حوارات سرية بين الأميركان و»طالبان» لتسليم الأخيرة 3 ولايات داخل أفغانستان. السودان مفتت ومهدد في كيانه، وأميركا على الخط لتضمن عدم وجود شيء اسمه السودان كما كان.
الصومال مجزأ، والإسلاميون الذين يقال إنهم قريبون من أفكار تنظيم «القاعدة» بدأوا يسيطرون على الكثير من المناطق، وهناك حديث عن أن الأميركان على استعداد لإفساح المجال لهذا البلد الممزق من أجل أن يكون مقرًا ومستقرًا لأنصار هذا الاتجاه ليتجمعوا فيه، وربما تتفاهم معهم الإدارة الأميركية على ترتيب بعض الأمور. اليمن أصبح جسرًا بين الجزيرة العربية والصومال، ويحتاج إلى الدعم المالي الكبير ليقوم بدور ما في هذه الترتيبات الجديدة.
لبنان وما أدراك ما لبنان... هجوم إسرائيلي مدمر بدأ في يوليو/ تموز من هذا العام واستمر مدة 33 يومًا واستهدف كل البنية التحتية بهدف إرجاع لبنان إلى 50 سنة إلى الوراء، كل ذلك بمساعدة ودعم أميركا التي كانت تتغنى بالديمقراطية اللبنانية. ولكي تعلن أميركا رسميًا موت «الشرق الأوسط الكبير» خرجت علينا وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس لتعلن بداية شيء جديد اسمه «الشرق الأوسط الجديد» يعتمد على «الفوضى البناءة»، وربما قصدت أن تدمير لبنان وغيره من البلدان هو الطريق الوحيد لتحقيق الحلم الأميركي بإعادة صوغ الشرق الأوسط، وان هذا النهج يتطلب أن تتحول بلداننا إلى حاضنة كبيرة لمخلفات الحرب والدمار التي أشعلتها أو ستشعلها أميركا بصورة مباشرة أو من خلال حبيبتها المدللة «إسرائيل».
وفي الشهر الجاري نشرت «مجموعة دراسة العراق» الأميركية (تكونت من 10 شخصيات سياسية بارزة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ترأسها وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر وعضو الكونغرس السابق عن الحزب الديمقراطي لي هاملتون)، والتي أصدرت تقرير «بيكر - هاملتون» ودعا إلى عودة السياسة الأميركية إلى نهجها القديم الذي يركز على تقوية الأمن من خلال الاعتماد على الأنظمة الصديقة في المنطقة. فالتقرير دعا «إلى تحول كبير في سياسة أميركا يتعين أن يشمل دفعةً دبلوماسيةً جديدةً في المنطقة».
أميركا - بحسب تعبير الاستراتيجي الأميركي أنطوني كوردسمان - أرادت إصلاح الشرق الأوسط، ولكن ما فعلته ما كان سوى إرسال ثور هائج إلى دكان شرقي يحتوي على أوانٍ فخارية/ خزفية، وان الثور لا يستطيع فعل شيء سوى تكسير الأواني
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ