في نطاق الحديث عن الإسلام السياسي يشار هنا إلى ندوة «الإسلام والديمقراطية... أسئلة العلاقة وآفاقها»، التي احتضنتها العاصمة التونسية يومي 15 و16 ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي. انعقدت الندوة بمبادرة من «المعهد العربي لحقوق الإنسان» و«مركز الإسلام والديمقراطية» بواشنطن، و«منتدى الجاحظ» التونسي.
تحوّل ذلك اللقاء الفكري منذ انطلاقه إلى حدث مميز على مستوى الفعاليات الجادة الباحثة عن أجوبة لتلك الأسئلة، سواءً من حيث طبيعة المسائل التي تمت إثارتها، أو من حيث التنوع الذي ميّز المحاضرين والمشاركين في النقاش.
ووصف البعض هذا اللقاء الفكري، بأنه شكّل فرصةً «نادرةً» لعدد من المثقفين والنشطاء العرب في أن يتحاوروا بشأن قضايا الإسلام والعَلمانية والديمقراطية من دون تشنّج أو تبادل الاتهامات والتكفير والتخوين.
توقفت الندوة عند قضايا مفصلية مثل موضوع «جذور الاستبداد في الثقافة العربية الإسلامية»، إذ اعتبر عميد كلية الآداب السابق عبدالمجيد الشرفي أن الفقهاء «قدّموا قيمة النظام على قيمة العدل»، واعترفوا بشرعية الغالب، وغلّبوا مصلحة المجموعة على مصلحة الفرد، وبذلك، «لم تتأسس الفردانية التي هي أساس النظام الديمقراطي».
وأكّد الشرفي دور القيم في ترسيخ الاستبداد بالمنطقة العربية، من دون التقليل من العوامل الاقتصادية والسياسية، مثل: هيمنة نمط الإنتاج التقليدي، وعدم مرور بلدان المنطقة بمرحلة التصنيع.
أما الناشط الحقوقي والسياسي التونسي محمد القوماني، فقد أكّد في مداخلته أن نظام الحكم الذي عُرِفَ بـ «الخلافة» كان نظامًا تاريخيًا، ولم يُعتبر «مقدّسًا أو ثيوقراطيًا»، وبالتالي، فإن مسألة الحكم تبقى مسألةً اجتهاديةً و»ليست مسألةً مقدسةً». لكنه دافع عن فكرة أن نزع القداسة عن السلطة السياسية «لا ينفي وجود علاقة بين السياسي والديني»، وأنه «لا يوجد في النصوص التأسيسية ما ينفي الطموح إلى تأسيس نظام ديمقراطي».
ومن القضايا التي أثارت جدلاً ساخنًا في الندوة كان موضوع العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، فكان هناك من أكّد أنه لا علاقة بين الإسلام والديمقراطية باعتبارهما «نظامين مختلفين في الطبيعة والمرجِعية»، بينما جنح آخرون إلى تأكيد أنه، على رغم أن الديمقراطية كانت نشأتُها غربية، فإنه لا مانع من اتخاذها نظامًا سياسيًا، من دون أن يعني ذلك الوقوع في تناقض مع الانتماء الإسلامي. وهناك من دعا إلى ضرورة التمييز بين الاستبداد الغربي والاستبداد الشرقي، وأن ما يظهر من تناقض، فمرجٍِعه «الثقافة السائدة، وليس النص التأسيسي».
ويشار هنا إلى أن بعض الوجوه العَلمانية التي شاركت في الندوة تلك، أقرت أنه قد حان الوقت لقبول مبدأ التعايش، واعتبرت هذه الشخصيات أن الجميع - من دون استثناء - بحاجة اليوم إلى المراجعة وممارسة النقد الذاتي؛ لترسيخ مفاهيم الرغبة في تأكيد ضرورة الاعتراف بالآخر.
وبعيدًا عن أجواء صخب الندوات وورش العمل التي انتعشت في الفترة الأخيرة، نجد شخصيةً مثل محمد تركي بن سلامة من جامعة اليرموك، يدعو في مقال له عن «مستقبل جماعات الإسلام السياسي ومواقف الدول العظمى منها» إلى دراسة الظاهرة الدينية في المجتمعات الحديثة، وبالتالي اتخاذ موقف حاسم تجاهها. إلا أن المفاهيم السابقة كافة كانت تتناول علاقة الدين بالدولة أو الإسلام بالسياسة، والحقيقة أن ارتباط الدين بالسياسة لم يعد ظاهرةً جديدةً، فضلاً عن أنها لا تخص دينًا بعينه.
ويرى بن سلامة أن الدين يرتبط بالدولة بنواحٍ متعددة متشابكة، وخصوصًا أن الدولة كتجسيد للسلطة والتنظيم السياسي أصبحت نموذجًا عالميًا لا بديل منه. ويرجع بن سلامة صعود جماعات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، إلى عدة أسباب يلخصها على النحو الآتي:
-1 فشل المشروع النهضوي العربي: فمنذ استقلال جميع الدول العربية عن الاستعمار الأوروبي في أواسط القرن الماضي حتى سقوط بغداد العام 2003، فشل العرب في تحقيق الاستقلال السياسي أو الوَحدة العربية أو التنمية الاقتصادية أو العدالة الاجتماعية، ووفقًا للتفسير الديني فإن هذا الفشل كان نتاج فشل النماذج الغربية المستوردة وعلى رأسها القومية والعَلمانية والاشتراكية والليبرالية، وعلاوةً على الفشل، تميزت النماذج السابقة بنزعة مادية جامدة وإفلاس روحي، كل ذلك مهّد الطريق للبحث عن نموذج بديل، فأصبح بديل الإسلام هو الحل، بديلاً جذريًا ومقبولاً للكثيرين.
-2 الموقف الغربي المناوئ للإسلام والشرق عمومًا: إن تراث العداء بين الشرق والغرب أو الإسلام والمسيحية واليهودية لايزال يشكل في كثير من الأحيان اتجاهات ومواقف كل من الطرفين تجاه الآخر، بل إن الكثير من المواقف والتصريحات الغربية تجاه العالم الإسلامي لاتزال تحكمها عقلية الحروب الصليبية، ولا شك في أن موقف الغرب تجاه الكثير من القضايا الإسلامية بدءًا من قضية فلسطين ومرورًا بالاحتلال الأميركي للعراق وانتهاءً بالرموز والصور المسيئة للرسول (ص) يعطي بعض الصدقية لهذه الرؤية. وفي المقابل، إن الغرب مازال يعتبر الإسلام دينًا دمويًا يشجع على القتل والإرهاب ويسيء معاملة المرأة... الخ، والخلاصة أن كليهما يكره الآخر، وكما يقول صموئيل هنتنغتون: «أربعة عشر قرنًا أثبتت أن العلاقة بين الإسلام والمسيحية كانت غالبًا عاصفةً وكل واحد كان نقيضًا للآخر».
-3 الثورة الإيرانية في العام 1979: فعلاوةً على محاولات إيران المستمرة، تصدير الثورة إلى العالم الإسلامي وتقديمها الدعمين المادي والعسكري أحيانًا إلى كثير من الجماعات الإسلامية بدءًا بحزب الله في لبنان وانتهاءً بالجماعات الإسلامية في السودان والجزائر، ومصر وفلسطين، فإن الإطاحة بنظام حكم الشاه عن طريق انتفاضة أو ثورة شعبية، قدمت الأنموذج إلى الكثير في العالم الإسلامي بأن الأنظمة التسلطية ولاسيما الفاسدة والعَلمانية يمكن الإطاحة بها وإقامة حكم الله في الأرض بدلاً منها وإعلان الحرب على الغرب ولاسيما الشيطان الأكبر الولايات المتحدة الأميركية.
-4 ظهور مجموعة من القادة والمفكرين الذين قدموا البيان الإسلامي رقم (1) لجماعات الإسلام السياسي: من أمثال حسن البنا وسيد قطب في مصر، وحسن الترابي في السودان، وراشد الغنوشي في تونس، وأحمد ياسين في فلسطين، والسيدحسن نصرالله في لبنان، وغيرهم من القيادات الكارزماتية التي كان لجهودها وأفكارها دورٌ بارزٌ في دعم جماعات الإسلام السياسي، فضلاً عن أن هذه القيادات تحظى باحترام الكثيرين من مسلمين وعَلمانيين، وذلك لأسباب متعددة منها ما يتعلق بالإنتاج الفكري السياسي ومنها ما يتعلق بالمواقف السياسية لهؤلاء الرموز.
-5 غياب الحرية الديمقراطية وشيوع الفساد والاستبداد والفقر في بعض الدول العربية: إن غياب الديمقراطية شكل البيئة الخصبة لنمو وانتشار الأفكار المتطرفة التي تبشر المُعَذَّبِين في أوطانهم بأنهم بانضمامهم إلى الحركة الإسلامية فإنهم لن يخسروا سوى معاناتهم وحرمانهم، وأنهم سيكافأون إن لم يكن في الدنيا ففي الحياة الآخرة على مواقفهم وانضمامهم إلى الحركة الإسلامية، وبالتالي أصبح الإيمان بمبادئ الحركة الإسلامية جهادًا والدفاع عنها استشهادًا والانضمام إليها عملاً نبيلاً ومقدسًا أحيانًا.
-6 غياب وضعف مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ومؤسسات، ما مكّن جماعات الإسلام السياسي من سدّ هذا الفراغ بوساطة سيطرتها على المساجد والمراكز الدينية والجمعيات الخيرية وتقديم الدعم إلى أعضاء هذه المراكز ولاسيما في أوقات الكوارث والنكبات، حتى إنها أحيانًا كانت تقدم الدعم إلى المتضررين قبل وصول أجهزة الدولة ومؤسساتها، ما أعطى هذه الجماعات شرعيةً وصدقيةً لدى فئات واسعة من أبناء المجتمع، إضافةً إلى ذلك إن الدولة تستطيع حلّ حزب سياسي أو إغلاق جمعية أو منتدى، ولكن ليس بوسعها أن تفعل ذلك مع بيت الله (الجامع) الذي أصبح تحت هيمنة هذه الجماعات.
هذه الصورة المتكاملة بكل تلاوينها تلخص واقع المخاض السياسي الذي تعيشه المنطقة العربية. وخلاصة الكلام أنه طالما بقيت النظم السياسية الحالية والأطراف الأجنبية مثل الولايات المتحدة رافضةً التعامل مع الإسلام السياسي باللغة التي يفهمها والمفردات التي يقبل بها، وطالما واصلت تلك الحركات الإسلامية رفضها تقديم ضمانات تؤكد التزامها بقواعد اللعبة الديمقراطية، فلن يكون هناك تحولٌ نحو الديمقراطية في العالم العربي.
وفي خضم هذه العملية تبقى القوى الباحثة عن مسلك بعيد عن تلك الجهتين شبه مشلولة في إطار الحراك السياسي الذي يعصف بالمجتمع العربي
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1555 - الجمعة 08 ديسمبر 2006م الموافق 17 ذي القعدة 1427هـ