كل من يزور أميركا لابد أن يلحظ أن المجتمع الأميركي يتميز بخصائص إيجابية منها احترام النظام ودرجة كبيرة من التلقائية في التعامل وإبراز المشاعر والأفكار والتمتع بقدر واسع من الحرية الفكرية والسلوكية بعيداً عن الضغط الرسمي والمجتمع، فالمجتمع الأميركي تعددي النزعة أصلاً لأنه تشكل من خليط أعراق وأديان مختلفة وهذا ما يفسر المساحات المعقولة من الحرية، التي يتمتع بها المسلمون في أميركا وخصوصاً في الفترة التي سبقت 11 سبتمبر/ أيلول.
لامسنا الحضور القوي للمسلمين في أميركا من خلال زياراتنا للمؤسسات الإسلامية هناك، ومن ذلك الزيارة المتميزة لمجلس علاقات المسلمين في أميركا (Cair) الذي يترأسه نهاد عوض ومدير الأبحاث محمد منير، وتأسس المركز العام 1994 بدافع إزاحة الصور النمطية عن الإسلام والمسلمين في الغرب والدفاع عن الحقوق المدنية للمسلمين ويقوم المركز بعدة أعمال منها القيام بدراسات عن أحوال المسلمين وشئونهم في الغرب وكذلك الدفاع عن الحقوق المدنية للمسلمين في أميركا ومحاولة إيصال رسالة للأميركيين محصلها أن المطالبة بحقوق الأقليات والدفاع عنها هو شيء لمصلحة أميركا في نهاية المطاف، فنضال السود الذي دام طويلاً هو الذي صنع من المجتمع الأميركي نموذجاً للحرية والتسامح.
وأشار نهاد عوض إلى أسباب نجاح المنظمة، إذ إن لها 32 مكتباً في أميركا ومكتبين في كندا فهي لا تعتمد خصوصية مذهبية أو سياسية ولا تشتغل بخصومة أية دولة أو فئة من الفئات وكذلك لا تتبني العمل الدعوي إذ ينظر الناس هنا في أميركا بطريقة سلبية جداً الى المراكز الدعوية التي تحاول تكريس ديانة معينة، وطرحت في الجلسة عدة أفكار للمناقشة منها ما يرتبط بالهجمة الإعلامية الكبيرة ضد المسلمين في أميركاً خصوصاً بعد حوادث 11سبتمبر التي استغلتها مجموعات يهودية ومسيحية يمينية متطرفة أبشع استغلال، وتم نشر الكثير من الكتب التي تهاجم الإسلام بشكل عنيف، ومن المهم معرفة أن الكتاب في أميركا مؤثر جداً فالإقبال عليه أكثر من الإقبال على أي شيء آخر ويمثل جزءاً مهماً من حياة الأميركيين، وكذلك فقد ساعد على نجاح الحملة ضد المسلمين ضآلة نسبة المسلمين في أميركا فهي لا تتجاوز الاثنين في المئة من مجموع الشعب الأميركي، والأهم من كل ذلك، النتائج العكسية للتصرفات السيئة التي يقوم بها بعض المسلمين هنا مضافاً الى غياب الدور الإيجابي الفاعل للدول الإسلامية، فالعالم الإسلامي يتعايش مع الأزمات ويستسلم لها ولكنه لا يستوعبها ولا يدرس أسبابها لأنه لا يملك نظرة استراتيجية مستقبلية، ولعل الخطاب الديني المحقر للدنيا ليس بمنأى عن أسباب ضعف النظرة المستقبلية عند المسلمين وكما هو ملاحظ في تجربة البروتستانت التي حاولت تصحيح النظرة الكاثوليكية التقليدية الى الحياة ونجحت في تطوير حياة الإنسان الغربي الى مدى بعيد.
ونلاحظ من جهة أخرى أن ردود الأفعال السلبية ضد الدين في الغرب هي نتيجة لتجربة خلط الدين بالدولة في أوروبا إذ إن الكثير ممن هاجر من أوروبا الى أميركا هرب متذمراً من السلطة الدينية هناك، وهنا ينقدح السؤال الأهم عن دلالة التجربة الغربية وهل أن الإشكال يعود الى استغلال الدين من قبل رجال الأكليروس كحال قابلة للتجنب من خلال تصحيح التجربة أو أن دخالة الدين في السياسة يجعل الدين دائماً في معرض الاستغلال من قبل بعض المتحدثين باسمه الا في حالات العصمة الخاصة والتي هي غائبة عن حاضرنا المعاش ولكن عوض أشار في الوقت نفسه الى حال إيجابية وهي أنه يوجد نضج فقهي وثقافي لدى الكثير من المسلمين في أميركا، فالفقهاء المسلمون هنا لديهم الوعي الكافي للتفريق بين فقه الغالبية وفقه الأقلية والتفكيك بين الأحكام المترتبة على كون المسلمين في حال الغلبة وبين الأحكام المترتبة على كونهم في حالات الضعف والقلة ولكن هذا لا يعني أن الصورة وردية إذ يوجد من يخالف هذا النهج ويدعو الى التعامل مع الغرب بمنطلقات متطرفة، وناقش بعض الحضور كلام عوض إذ إن اصطلاح فقه الأكثرية وفقه الأقلية لا يخلو من انتهازية تعود الى اختلاف نمطي للأخلاق في حالتي النصر والهزيمة وذلك يتنافى مع المبدأ الأخلاقي الواحد ويلتقي مع ما يسمى أخلاق القدرة، وهذا التلون قد ادعته بعض المدارس الفلسفية على أساس أنه مقتضى الطبع الإنساني ومن العبث أن نحاول السير على خلافه لأنه سيكون محاولة لسلخ الطبيعة البشرية الذاتية في تكوين الإنسان وترتب على ذلك ادعاء بعض الفلاسفة وجود إشكال محصله أنه إذا كان هدف الأديان هو تهذيب الإنسان بمعنى طمر نوازع الشر فيه فهذا أمر لا يتيسر الا لأفراد استثنائيين جداً، وفي ظروف استثنائية، وإن لم يكن هدفاً للدين فما معنى الوعيد بالعقاب عليه في النصوص المقدسة؟ ولكني أعتقد أن الأديان لا تهدف الى إماتة نوازع الشر في الإنسان فذلك شيء محال أصلاً ولكنها تسعى الى تحجيم تلك النوازع والتقليل من مخاطرها فلذلك تحدث القرآن الكريم بإيجابية عن الذين «خلطوا عملاًً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم» (التوبة: 102).
والشيء الملفت للنظر هو أن نهاد عوض يحاول أن يغلب الانطباع الإيجابي تجاه المجتمع الأميركي وإن كان لا يفتر عن نقد السلطات الأميركية نتيجة أخطائها الكبيرة في التعامل مع المسلمين، إذ قال إنه من خلال إقامتي في أميركا أستطيع القول إن المجتمع الأميركي هو أقرب المجتمعات الى أخلاق الإسلام وهذا شيء له جذور حتى في تاريخ التشريع الأميركي فتوماس جيفرسون مثلاً هو أحد المشرعين الأميركيين الكبار ولقد اطلع على القرآن والقانون الإسلامي ويمكنك أن تجد عند نصبه التذكاري في واشنطن لافتة تتضمن نموذج للتشريعات التي ساهم في إصدارها وعندما تقرأها تشعر بأنك تقرأ شيئاً لا يبتعد كثيراً عن التشريع الإسلامي بل إن الثقافة الأميركية هي حصيلة ثقافة شعوب وحضارات مختلفة فالمواقف الحادة جداً ضد الثقافة الأميركية فيها الكثير من الظلم والسطحية والتعميم، ولابد من تمييز المساحات فأميركا بلد عظيم جداً كشعب وحضارة تتميز بالحرية والتعددية ولكن السياسيين وأرباب المال والقدرة هنا هم الذين أوقعوا أميركا في مآزق أخلاقية خطيرة، ويضيف نهاد عوض أنه بعد 11سبتمبر زاد الاهتمام بالإسلام وهذا أمر له حدان فقد زادت الكراهية للإسلام الى جانب زيادة الفضول في شأنه فلا ينبغي أن نغفل أبداً اتساع مدى تصلب الأفكار السلبية ضد الإسلام بعد الحوادث المذكورة، ومن الغريب أن نجد زعماء الإرهاب يحاولون تلميع أفعالهم الجنونية بدعوى ازدياد عدد الداخلين في الإسلام في أميركا بعد تلك الحوادث المأسوية وهذه معلومة مغلوطة جداً وقد أكد عدم صحتها مدير وإمام المركز الإسلامي في واشنطن. عبدالله خوج فمن ضمن أعمال هذا المركز توثيق حالات الدخول في الإسلام ورصد تحولاتها من حيث الزيادة والنقصان وصرح بتضاؤل حالات دخول الأميركيين في الإسلام منذ 11 سبتمبر وكان ذلك في لقاء معه على هامش وجبة غذاء أقامها على شرف الوفد البحريني سفير جلالة ملك البحرين في واشنطن ناصر محمد البلوشي وحضر اللقاء سفراء بعض الدول العربية في واشنطن، والمؤسف هو أن الرأي العام الإسلامي يكاد يميل الى تبرير أفعال الإرهابيين بدافع أن هؤلاء ينتقمون لمشاعر المسلمين والظلم الذي يلحق بهم من قبل القوى الطاغية في العالم وذلك في الحقيقة غفلة واضحة عن أن هؤلاء لا يفعلون شيئاً لصالح المسلمين سوى أنهم يضاعفون أسباب التكالب على الإسلام والمسلمين وهكذا اختطف الخطاب الإسلامي وتصدر المتطرفون الواجهة الإعلامية للأمة في حال أن الساحة الإسلامية عموماً وفي أميركا خصوصاً قد تنبؤ عن مفاجآت خطيرة فقبل فترة وجيزة قامت أستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة فرجينيا الأميركية أمينة ودود بإمامة الرجال والنساء في صلاة مختلطة وبطريقة استفزازية جداً وكذلك نلاحظ ظاهرة وفاء سلطان السورية الأصل والمقيمة حالياً في أميركا وقد بدأت هنا تناقش بعض الأفكار التي كانت مجمدة نسبياً كالقاديانية والبهائية وكل هذا قد يكشف عن تحولات خطيرة على المستويين الثقافي والسياسي تحوجنا الى دراسة مديات قدرتنا على تحمل الصدمات والتعامل معها بوعي تام يحاول استيعابها والتخفيف من تبعاتها وأخطارها وليس التعامل الفوضوي الذي يصير المشكلة الواحدة الى عشرات القنابل الصوتية والانشطارية التي تصيب مفاصل وعينا الإنساني بالتشوه والشللية قبل أن تلحق الضرر بالآخر
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1554 - الخميس 07 ديسمبر 2006م الموافق 16 ذي القعدة 1427هـ