يتفق المسلمون/ الإسلاميون على أن «الإسلام» هو الأطروحة المثلى، بل الوحيدة، للنهوض بالإنسان وتحقيق صلاحه عاجلاً وآجلاً. قال تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ» (آل عمران: 19). وقال تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (آل عمران: 85). ويتفقون أيضاً على أن المسلمين مكلفون بالدعوة إلى الإسلام، وأن من الشروط اللازمة في ذلك أن يكونوا على بصيرة في فعل الدعوة. قال تعالى: «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» (يوسف: 108).
فماذا يعني أن ندعو؟ وماذا يعني أن نكون على بصيرة؟ أعتقد أننا للجواب على السؤالين يجب أن نلحظ أموراً ثلاثةً: الأمر الأول: السبيل/ الإسلام، الأمر الثاني: الدعوة، الأمر الثالث: البصيرة.
السبيل هو الإسلام
أحسب أننا بحاجة ماسّة إلى مراجعة شاملة للمفاهيم السائدة عن «الإسلام». فليس في أوساطنا من يدّعي أن فهم المسلمين عن الإسلام كامل، لأننا نسلّم جميعاً بالقصور في هذا الصدد. ولو أردنا أن نستعرض بعض الإشكالات على هذا المستوى، فيمكن أن نذكر بعضها ضمن ما يأتي:
المشكلة الأولى: الانتقائية، وأعني بـ «الانتقائية» أن الأوساط الإسلامية العامة تعنى بجوانب من التعاليم الإسلامية على حساب بعضها الآخر. ومن قبيل أن يكون الهم التعليمي يتمحور حول «الفقه» دون «العقيدة»، أو على «الحديث» دون «الفقه»، وفي الجانب العملي على الأخلاق دون الشريعة، أو العكس.
المشكلة الثانية: التجزئة/ التفكيك، وأعني بـ «التجزئة والتفكيك» أن يقال، أو يظن، أن لا ارتباط بين بحوث «الفقه» وبحوث «العقيدة» أو بينهما وبين «القيم»... ليكون من مضاعفات ذلك الشعور بأن التدين بالإسلام، الفقهي فقط، أو القيمي فقط، أو الاعتقادي فقط، غير كافٍ لطرح الإسلام مشروعاً نهضوياًّ للأمة التي تعاني من التخلف على أصعدة عدة، لا يحق لأحد الزعم بأن الفقه وحده يمكن طرحه عبراً عن «الإسلام».
وهذه التجزئة وذاك التفكيك هما اللذان دفعا ببعض أبناء المسلمين أن يرى في الإسلام، بهذه القراءة، طرحاً قاصراً عن النهوض بالأمة. الأمر الذي دفع بهم إلى البحث هنا وهناك عن بديل أو على الأقل المزاوجة عبر الالتقاط.
المشكلة الثالثة: الالتقاطية، وأعني بـ «الالتقاطية»: الانفتاح غير المنضبط على مختلف المدارس الفكرية والإيمان بقناعات يناقض بعضها بعضاً، من حيث يلتفت صاحبها ومن حيث لا يلتفت. فهو «مسلم» ولكنه في الوقت نفسه «شيوعي»، وهو مسلم ولكنه في الوقت نفسه «علماني» يرفض بتاتاً تطبيق الشريعة، أي الإسلام. وهو يقول بذلك ليس بالضرورة عن سوء نية، وإنما هو بسبب قصور في فهم الإسلام من ناحية، والربط المطلق بين الإسلام وواقع المسلمين ماضياً وحاضراً. وكلاهما خطأٌ فاضحٌ وقصورٌ بيِّنٌ.
ويدفعه إلى هذا الالتقاط ما يجده من قصور في معالجات الإسلاميين لما يحيط به من مشكلات إلى نسبتها للإسلام ما يدفعه إلى البحث عن حلول خارج دائرة المعارف الإسلامية لمشكلاته وإشكالاته. فيلتقط من هنا ومن هناك وغرباً، ما يجمع شتاته في نسق معرفي يرى أنه يشكل الحل الأمثل لأزماته.
المشكلة الرابعة: المذهبية، مما ابتلي به «الإسلام» عبر تاريخه انحياز المسلمين نحو التمذهب بآراء الرجال، فصار المسلم يغلّب انتماءه المذهبي على حساب انتمائه الإسلامي. وقد يكون مبرراً أن يرجع العامي (غير المتخصص) إلى العالم (المتخصص)، وهو ما نعنيه بـ «المذهبية»، وهو أمر مشروع، ولكنه يتحول إلى معضلة حينما يلقن العالم أتباعه أن الإسلام يتمثل في ما يقوله هو، وأن الباطل ما قوّله غيره. أو حينما يقع العامي في قصور على مستوى الربط بين رأي مفتيه وبين الإسلام بنحو مطلق، إلا أن يدعي عصمة إمامه، فإننا نخرج حينئذ من دائرة التمذهب الممقوت، إلى دائرة أشد حساسية وهي دائرة الإطار المعرفي الذي لا يجوز تعديه في تلقي الإسلام. ولذلك مجال آخر.
وأستبق لأقول إن ما يرتبط بحديثنا هو «المذهبية» في مستوى أقل من «التشيع» و «التسنن»، فإنهما من المستوى الثاني، وليس الأول، فهما نظامان معرفيَّان في منهج التلقي انعكس نسقاً معرفيّاً ونظاماً سياسيّاً واجتماعيّاً...
وحينما نتأمل معارف الإسلام فإنه لا يصح حصر الإسلام في أقوال الفقيه الفلاني أو المحدث الفلاني أو العارف الفلاني... ولو فعلنا ذلك فهو ادعاء عملي لعصمة هؤلاء وإن لم نصفهم بـ «العصمة». وسنقع نتيجة ذلك في تقزيم الإسلام إلى الحد الذي لا يمكن الدعوة إليه، لأننا لم نفهمه بالنحو السليم.
الدعوة... الفقاهة في الإسلام
ما سبق من مشكلات كان على مستوى علاقتنا بـ «الإسلام». وبطبيعة الحال سينعكس ذلك على مستوى «الدعوة» لأن الذي لا يفقه الإسلام حق الفقه، سيكون داعيةً قاصراً، وحاله في ذلك حال محامٍ فاشلٍ في دعوى محقة. وأشير إلى بعض المشكلات في هذا الصدد. وسأقتصر على أسطر قليلة عن كلٍّ منها، لأن تفصيل الحديث يتطلب مجالاً آخر.
المشكلة الأولى: اللغة، لا تزال اللغة المسيطر على فعل الدعوة ليست بمستوى المهمة. مع أن الله عز وجل يقول: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (إبراهيم: 4). بمعنى أن للرسل وأتباعهم مهمة الدعوة وأن من اللازم أن يكونوا قد امتلكوا ناصية (التواصل/ اللسان)، وأن يكون ذلك مؤدياً للغرض «ليبيِّن». فالمطلوب من الداعية «اللغة» والوضوح.
ونعرف جميعاً أن اللغة ليست كائناً جامداً، فعوامل عدة تسهم في تغيير اللغة الإعلامية، والدعوة شكل من أشكال الإعلام. فلغة الكتابة غير لغة الخطابة، ولغة الكبار غير لغة الصغار، ولغة العامة غير لغة الخاصة... «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (النحل: 125). وكلنا نعرف كم هو القصور الإعلامي على مستوى الدعوة إلى الإسلام. وهذا القصور الناشئ أحياناً من تقصير، وأحياناً أكثر من قصور لعوامل خارجية.
وحتى الإعلام العربي الناجح نسبيّاً هو لا يحمل هم النهوض على أصوله، بل إنه منشغل بمعارك جانبية، أو بمعارك لتسجيل الحضور في الساحة على مستوى الربح المادي.
المشكلة الثانية: الكسل، ومن المشاكل التي تعاني منها أمتنا في طريق النهوض مشكلة «الكسل». فليس كل من فهم الإسلام، وآمن به، وامتلك الخبرة اللازمة للدعوة، سارع وبادر إليها. ولهذا الكسل والفتور عوامل عدة، منها ما هو ذاتي ناشئ من الفتور النفسي، ومنها ما هو مفروض من الخارج على الإنسان.
ولسنا بحاجة إلى تبيان وجوه الترابط بين النهوض وبعد الهمة التي ينافيها تماماً الكسل. وذلك لوضوح هذا الترابط وغناه عن الاستدلال.
المشكلة الثالثة: الفرقة والاختلاف، وأما الفرقة والاختلاف الواقعان بين أبناء الأمة، على اختلاف أسبابه، فقد ترك بصماته الجلية على مسألة النهوض. بل إن الاختلاف صار عاملاً من عوامل النكوص، وليس معوقاً للنهوض فحسب.
المشكلة الرابعة: الفردانية، وأعني بـ «الفردانية» تنامي حس العمل الفردي، سواء على مستوى الشخص أو الأشخاص، دون أن نبلغ مستوى «المؤسساتية» التي تعد لازمة من لوازم العمل الإسلامي. والذي جسده رسولُ الله (ص) بطريقة تصاعدية حتى انتهت إلى صنع أمة. فأصبحنا الآن شعوباً وأمماً في جزرٍ منفصلةٍ.
البصيرة... أزمة الداعي
وننتهي إلى الإشارة إلى أزمة على مستوى الذات في شخص الداعي، وأذكر هنا نموذجين:
المشكلة الأولى: القصور في فهم الإنسان، ونريد بذلك أن من يمارس فعل الدعوة، التي تعني إحداث التأثير في عقل المدعو ووجدانه، يجب أن يعي أن هذا لا يتيسر لمن لم يفهم الإنسان الذي هو المدعو. ومن مقتضيات هذا الفهم إدراك التباينات بين الناس، فإنهم ليسوا سواء. وهذا الأمر لصيق بشكل رئيسي في فعل الدعوة.
المشكلة الثانية: القصور في فهم سنن التاريخ، وهذه المشكلة نعني بها أن للتاريخ الإنساني سنناً وقواعد تحكم مساره. وهذا هو أحد عوامل عناية القرآن الكريم بقصص الأمم السابقة. لنتعلم منها الدروس والعبر.
بسعينا الحثيث في رفع هذه المشكلات يتأتى لنا أن نسهم في عملية النهوض. وإن الإسلام، الذي قدمنا أنه الحل الأمثل والوحيد للنهوض، جديرٌ بأن يستوعبه المسلمون كما هو أولاً، وندعو له كما ينبغي ثانياً، لينتهي بنا إلى أن نتبوأ ما يجب أن نتبوأه بين الأمم من مقام رائد وريادي. وذاك يتوقف على إنجاز الصلاح وارتياد طريق الإصلاح «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ» (الأنبياء: 105)
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حسن النمر"العدد 1554 - الخميس 07 ديسمبر 2006م الموافق 16 ذي القعدة 1427هـ