العدد 1554 - الخميس 07 ديسمبر 2006م الموافق 16 ذي القعدة 1427هـ

الأساس الثالث... الدين ودوره في صهر العصبيات

أسس علم العمران في مقدمة ابن خلدون (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لا يشرح ابن خلدون كثيراً المقدمة السادسة (الدين) في الباب الأول كما فعل في نظرية الجغرافيا التي افرد لها، أربع مقدمات من أصل ست. والسبب انه يعتبر الدين (الشريعة) من الثوابت الإنسانية، كالاجتماع البشري، في منهجية تفكيره وتحليله للعمران والعصبية. لذلك يختصر أفكاره في الباب الأول لأنه سيعود ويفصل رأيه في دور الدين وتأثيره على الدولة وعلاقته بالعصبية في فصول الباب الثاني وما بعده. فابن خلدون شدد على نوعين من الاختلاف: اختلاف العمران واختلاف البشر. ويضيف في مقدمته السادسة (الدين) اختلاف الأفراد. فالله سبحانه «اصطفى من البشر اشخاصاً فضلهم بخطابه، وفطرهم على معرفته» (ص99).

من علامات الأنبياء الكثيرة واحدة هي «ان يكونوا ذوي حسب في قومهم (...) ومعناه ان تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه ويتم مراد الله من كمال دينه وملته» (ص101). فابن خلدون يربط النبوة بالعصبية ومهمة التبليغ بالشوكة إذ لابد، الى جانب الاصطفاء، من قوة بشرية (اجتماعية) تحمي المكلف من أذى الكفار حتى تصل الرسالة مسيجة ومحصنة بقوى قادرة على حملها والدفاع عنها.

ويتحدث في سياق شرحه لخلافات المسلمين في خطابهم على علامات إثبات النبوة فيذكر الفارق بين المتكلمين والمعتزلة في فهم الأفعال. المتكلمون يقولون عن الفاعل المختار «انها واقعة بقدرة الله». والمعتزلة يقولون انها صادرة عن الأنبياء «إلا أن المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم» لأن المعجزة دالة بمجموع الخارق والتحدي. «لذلك كان التحدي جزءاً منها» أي صفة نفسها وهو واحد (ص101).

ويقرأ اختلاف آراء المتكلمة والمعتزلة في مسائل الخوارق والكرامة. واختلاف آراء الأشعرية عن الحكماء والمعتزلة والمتصوفة في التصديق والهداية والتحدي (ص102). وبرأي ابن خلدون ان القرآن الكريم هو المعجز لأنه «هو بنفسه الوحي المدعى وهو الخارق المعجز (...) فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه» (ص102 و103).

ابن خلدون قرآني المنهج وتاريخه يستند إلى الكتاب كمصدر رئيسي لشرح حقائق التاريخ وشخصية العالم وتفسيرها. فالعالم برأيه منظم على «هيئة من الترتيب والأحكام». وحوادثه مترابطة ارتبطت فيها «الأسباب بالمسببات» والكون متصل من حيث «اتصال الأكوان بالأكوان». والتطور دائم والموجودات متحولة نظراً إلى استحالة «بعض الموجودات إلى بعض». وليس هناك من غاية نهائية للعالم إذ «لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته» (ص104).

انطلاقاً من هذا المدخل العام الذي هو أشبه بالقانون في نظرية التطور يبدأ صاحب المقدمة في تقسيم العالم إلى مراتب ودرجات فيقسمه إلى عالم الحس وعالم التكوين وعالم الملائكة. ويبدأ بالعالم «المحسوس الجثماني» في قراءة مراتب التطور ودرجاته من المادي إلى اللامادي ويكتب أهم ورقات المقدمة، فهو كتبها كمدخل نظري يكثف رأيه في مسائل النبوة وتفسيرها، الكهانة والمخيلة، الرؤيا ومطالعة النفس، الأحلام والاخبار بالمغيبات، والولاية والعبادة.

وقبل أن يبدأ بتفسير الوحي وتحليل الكهانة والرؤيا والاخبار بالمغيبات وشرح مصدر الأحلام وتفسيرها يلجأ إلى تصنيف البشر إلى ثلاثة: الصنف الأول «عاجز بالطبع عن الوصول إلى الادراك الروحاني». والثاني عاقل يتسع «نطاق ادراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشري، ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية». والثالث هو صنف مفطور «على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى». وهؤلاء هم «الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة، وهي حالة الوحي...» (ص106 - 107).

ويقرر بعد شرح مقتضب لطريقة النزول التعريف الآتي للوحي «ان الوحي كما قررناه مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية وتلقي كلام النفس، فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر» (ص108).

بعد ان ينتهي من قراءة وتحليل مختلف وجهات نظر العلماء والمتكلمة والحكماء والفلاسفة والملاحدة بشأن الموضوع ينتقل مباشرة لتوضيح رأيه والرد على الكهانة. فنفس الكاهن مفطورة على النقص و «إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات» (ص109). اما الرؤيا فهي «مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات» (ص111).

ويفسر الأحلام وأسبابها ولا تختلف شروحه المختصرة كثيراً عن تلك التي توصلت إليها نظريات تفسير الأحلام الحديثة. فابن خلدون يرتب «النفس الناطقة» ويوزع ادراكها على مستويين ظاهري وباطني. فالنوع الأول «ادراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس». والثاني «ادراك بالباطن» وهو «بالقوى الدماغية». ولأنه يرى ان «الذات المدركة واحدة» يفسر الحلم بأنه نتاج الحواس الظاهرة ورجوعها إلى القوى الباطنة (الدماغ). فالرؤيا قريبة من الحلم (النوم) وهي خواص للنفس الانسانية «موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم» (ص113). وهنا يصل إلى تفسير الأحلام بالقول «كل واحد من الاناسي رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة، وحصل له على القطع ان النفس مدركة للغيب في النوم، ولابد» (ص113). ويشير إلى كتاب «الغاية» لمسلمة عن الاحلام الذي يفسر فيه حالومة سماها «حالومة الطباع التام» إذ عندما تحدث هذه الحالومات «تحدث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا». لكن «القدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء» (ص114). ويسمي ابن خلدون الأمر بمفارقة اليقظة التي تصدر عن بعض الناس وتلتبس «بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوف إليه»(ص117). فالاستعداد برأيه يساعد على التخيل وإذا قوي الاستعداد «كان أقرب إلى حصول ما يستعد له» (ص114).

ويقرأ كتب أهل الرياضات الروحية ويصنفهم من أهل الكشف ومن المتصوفة لأن لهم «مدارك في الغيب» وأساسها ان النفس الانسانية ذات موجودة بالقوة و»تخرج من القوة إلى الفعل بالبدن وأحواله (...) وكل ما بالقوة فله مادة وصورة. وصورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الادراك والتعقل» (ص115). وعلى أساس هذا التحليل يرد على كلام العرافين والكهانة والزجر و «إدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل (...) وهذه الادراكات التي ذكرناها موجودة كلها في نوع البشر» (ص117). ويهاجم المسعودي على ما أورده من كلام هؤلاء في «مروج الذهب» ويظهر «من كلام الرجل انه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف، فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله» (ص117).

ينتقل صاحب المقدمة للحديث عن المتصوفة وما يشار إلى مسألة الكرامة عندهم فيذكر أن رياضتهم «دينية وعرية عن هذه المقاصد المذمومة» التي يلجأ اليها البعض لمعرفة المدرك الغيبي. ويميز بين رياضة الكهانة في الهند ورياضة المتصوفة فهم «يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتوحيد، ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التغذية بالذكر، فيها تتم وجهتهم في هذه الرياضة». لكنه يحذر من الشطط والجنوح والتطرف لأنه يوقع في الشرك (ص118).

ويتحدث أيضاً عن ظاهرة المريدين والمهابيل والمجانين والمشعوذين ويصل إلى مسألة مقامات الولاية ويورد كلام الفقهاء الذين يرون «ان الولاية لا تحصل الا بالعبادة» أي انها قد تحصل بالاكتساب والتمرين والتدريب (الممارسة). ويعارضهم في الأمر لأن «فضل الله يؤتيه من يشاء» (ص120). فابن خلدون يتمسك بأن النفس الانسانية ثابتة الوجود والعقل صفة خاصة للنفس والاستعداد شرط سابق والله يكلف من يشاء.

يدخل صاحب المقدمة في مساجلات ضد المنجمين والقائمين بالدلالات النجومية ويشرح وسائلهم ويناقش قراء الخط والرمل ويرد على مزاعمهم خصوصاً تلك الطوائف التي استندت في فنون التنجيم على كتاب ارسطو و «هذه كلها مدارك للغيب غير مستندة إلى برهان ولا تحقيق» (ص124).

ابن خلدون متمسك بنظرية التطور من عالم المحسوس إلى عالم اللامحسوس، لذلك فإن الغيب عنده لا يعرفه الا الخواص «من البشر المفطورين على الرجوع من عالم الحس إلى عالم الروح» (ص122). فالفطرة سابقة على الاكتساب. والغيب «لا يدرك بأمر صناعي» ولا الظن «بمعرفة المجهول». وكل من يعتقد في ذلك فهو قاصر وعنده قصور في «فهم التناسب بين الموجودات والمعدومات، والتفاوت بين المدارك والعقول» ومن «شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه ادراكه» (ص126 و127).

ويميز بين العلم والغيب ويرى انه بالامكان معرفة «الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم» اما في الكائنات المستقبلة فإذا «لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته» (ص128).

تظهر كل هذه المحاججات حرص ابن خلدون على كشف أوهام المشعوذين التي كثرت في عصره وتم نقلها من عصور سابقة وأراد منها تعرية جهاتهم وتحصين الدين من تلك الخرافات والتشويهات. فصاحب المقدمة يعتبر النبوة اصطفاء من الله سبحانه فهو فطر الأنبياء على معرفته وأعطاهم القدرة على الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة. و «الوحي في اللغة الاسراع» ويأتي في حالين: الأول الدوي والثاني التمثل. وأسلوبه تلقي كلام النفس ويحدث عنه «مفارقة الذات ذاتها» (ص107 - 108).

ونظراً إلى أهمية الدين في نظرية التطور الخلدونية يفرد له الكثير من الكلام ويأتي على تأثيره في أكثر من فصل في أبواب المقدمة. وبرأيه ان الأمة إذا «أقبلت على الله اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة (...) والسبب في ذلك كما قدمناه ان الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم، وهم مستميتون عليه...» (ص167). فهو على رغم تأكيده ضرورة العصبية لقيام الدولة وحاجة النبوة إلى شوكة لحمايتها الا انه يعود فيؤكد دور الدين عند قيامه في تعزيز الدولة وزيادة قوتها بإضافة قوة الدين على قوة العصبية. فالدين يجمع العصبيات ويخفف من تناقضات رجال الدولة ويوحد تباين اغراضهم ويعزز من مناعة العصبية وقوتها ويعطي من قوته قوة للدولة. ويقدم أمثلة على ذلك كما وقع للعرب في الفتوحات وصدر الاسلام و «دولة الموحدين في المغرب» إذ «ان الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة (...) فلم يقف لهم شيء» (ص168).

الاجتماع الديني برأي صاحب المقدمة هو قوة يصهر العصبيات ويقوي الاجتماع البشري ويزيد من لحمة الدولة ويقلص من تناقضاتها ويجمعها في وجهة واحدة وهدف مشترك. لذلك اعتبر الدين (الاجتماع الديني) من أسس نظرية التطور إلى جانب الاجتماع البشري (العمران) والجغرافي (البيئة والمناخ والغذاء والتكوين)

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1554 - الخميس 07 ديسمبر 2006م الموافق 16 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً