العدد 1553 - الأربعاء 06 ديسمبر 2006م الموافق 15 ذي القعدة 1427هـ

رد اعتبار للسيدة قصيدة

علي الجلاوي comments [at] alwasatnews.com

كلما كنت ألامس يدها يرتعش قلبي، وكلما نزلت سلالم الإيقاع بأناقة، كنت أمسك بروحي، وأغلق باب الحقل خوفا على الأشجار أن تتبعها، كانت وحدها تضع الغيم في معطفها، وترتب أمكنة الأنهار، وحدها تهش الأزهار إلى السماء، وتصعد بها مبللة بالدفء.

أصبحت الآن محاصرة ببرودة الوحدة، تقتلها آراء المتحذلقين، أصبحت تحت رحمة الحداثة، وسكين النظريات المعلبة، مفلسة حتى من نفسها، هذه السيدة التي كنت أعرفها قبل خمسة عشر عاماً، هذه السيدة التي أعلنت انحيازها للفقراء والمستضعفين، الثائرة على الأنظمة الفاسدة، والأم التي تحمل أبناءها إلى مدنها السحرية، والتي تعرضت لأكثر من محاولة اغتيال، تنام الآن وحيدة على سريرها، تشعر بالإهمال والعبث.

قبل أيام اطلعت على مقال لنيكولاس سيدن في صحيفة «الغارديان» البريطانية، بعنوان: «وصول الشعر إلى القلب». يعتقد سيدن من خلال مقاله أنه وجد طريقة جيدة لفهم «السيدة قصيدة»، فهو خلال مراحله الدراسية الأولى، منذ الابتدائية حتى الجامعة لم يحفظ قصيدة واحدة، وشرع الآن بحفظ مئة قصيدة، معتبرا أن هذه التجربة أكسبته خبرة حياتية مختلفة وجديدة. تبدو الفكرة بسيطة لحد ما، وقد بلغ سيدن نصف المرحلة في تجربته إلى الآن.

بهذه التجربة أدخل سيدن نفسه إلى جمالية النص الشعري، ورفع من مستوى الذائقة لديه، فالذائقة ما هي إلا تراكم، يمنح الفرد القدرة على الفرز والتمييز، في حين فرض سيدن تسعة وتسعين ضرةً على القصيدة الأولى، معتقدا أنه بذلك سيرفع من قدرته وقوته في إمالة قلوب النساء، كما يقول.

فهل كان هارون الرشيد البريطاني يدرك أن فكرته عن إيصال الشعر إلى القلب، تستبطن إشكالية انعزال الشعر أولا؟ وهذا ما جعل الكثيرين يقولون بـ «زمن الرواية»، وأن الشعر ببركة الحداثة تراجع، وعاشت «السيدة قصيدة» مرحلة أرذل العمر، فبعد خروج «قصيدة النثر»، وانتمائها لغرف النخبة، واقتصارها على القصيدة «الفكرة»، خفت صوت الشارع فيها، وأخذ أكثر سكانها شققا مفروشة تطل على «البراغماتية» النفعية، فالشعر كما يقول والدي: «لا يغني ولا يسمن من جوع»، غير أن المشكلة لا تكمن في انحسار مكانة الشعر لدى المتلقي، أو هل يمكن للشعر أن يملأ بطن جائع. المشكلة الحقيقية تكمن في كون «السيدة قصيدة» مازلت تعطي دروسها للعصافير، وتمنح الأشياء جماليتها السحرية بلمسة واحدة، فهي كالساحر الذي يلمس الأشياء فيحولها إلى قيمة جمالية بحد ذاتها، والتعلق بالجمال من أمر فطري فرضته الطبيعة البشرية، ولذلك فهي لا تخضع لمعيارية الاستفادة المادية، كما يقترح البعض.

وذهب آخرون إلى أن الشعر ناله التشظي، فالشعر تسلل بخفة كبيرة إلى الأجناس الأخرى، فنجده في الرواية، كما حدث مع الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، كما نجده في القصة والمقال أيضاً، في حين أن هذا الاستدلال يخدم الأجناس الأخرى في الوقت نفسه، فالأسلوب القصصي تسلل كذلك إلى الشعر والمقال، وهو أقدم الأجناس.

وفي الوقت نفسه ظهرت أشكال فنية استطاعت أن تنال مكانة جيدة بين الفنون، وخلال فترة قياسية، كما حدث للشاشة الفضية، فبعد تنازل الشعر عن وزارة الإعلام ووزارة الخارجية، ودور وزارة التربية وكتابة التاريخ، خلص لجماليته الذاتية منذ العصر الجاهلي إلى الآن، إلا أن هذا المكان أصبح محل تنافس لأكثر من جنس أدبي أيضاً، ولغياب النقد المساوق للتجربة الشعرية الحديثة، وغياب آلة نقدية تمنح المتلقي و «السيدة قصيدة» بعض الشغف والحب، أدخلت هذه السيدة إلى دار العجزة على يد أبنائها، وتمت مصادرة ممتلكاتها بتهمة إصابتها بالخرف المبكر، في حين أن نيكولاس يصر على تبني مئة قصيدة، كرد اعتبار لهذه السيدة، فهل سينجح مشروع سيدن

إقرأ أيضا لـ "علي الجلاوي"

العدد 1553 - الأربعاء 06 ديسمبر 2006م الموافق 15 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً