العدد 1553 - الأربعاء 06 ديسمبر 2006م الموافق 15 ذي القعدة 1427هـ

«البيت الأبيض» وهروب تيار «المحافظين الجدد»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ماذا يجري في «البيت الأبيض»؟ فبعد استقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد قدم مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة جون بولتون استقالته من منصبه خوفاً من «البهدلة» التي كانت تنتظره في الكونغرس في حال قرر التمسك في مقعده.

الهروب من العقاب يبدو أنه يشكل الملاذ الآمن لتيار «المحافظين الجدد» الذي هدد المنطقة وتوعد العرب والمسلمين بالمزيد من الحروب بناء على رؤية التيار «الانجيلي» الذي يدعي أنه على اتصال يومي مع «الأعلى» ويأخذ الأوامر والتوجيهات منه. هذا التيار انقلب الزمن عليه أو على الأقل اكتشف أن أكاذيبه لم تعد صالحة للاستخدام بعد أن أعطى الناخب الأميركي رأيه بها في دورة الانتخابات النصفية التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

الهروب إلى الأمام تحول إلى شعار مقدس يوحد تيار «المحافظين الجدد» وبات التهرب من مسئولية الكوارث التي أنزلها هذا التيار في المنطقة هو الخيار المفضل بدلاً من مواجهة الوقائع الميدانية على الأرض.

«البيت الأبيض» الآن في حال يرثى لها بسبب تخبطه الناجم عن ضعف في قراءة الآليات التي تتحكم بمسار وتوازنات المنطقة العربية الإسلامية. وهذا التخبط أنتج انقسامات سياسية داخلية بين فئة قررت المغادرة خوفاً من العقاب وفئة قررت البقاء لمواجهة تبعات الفشل وفئة تستعد للدخول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

الفئة الثالثة هي الأخطر ويجب مراقبة تصريحاتها وسلوكها بدقة لأنها هي الطرف الضامن لمنع زعزعة «البيت الأبيض» ووقف تدفق النازحين منه إلى التقاعد المبكر. هذه الفئة التي تستعد للدخول والحلول في مواقع ومناصب تماسيح تيار «المحافظين الجدد» تشكل بالنسبة إلى الرئيس جورج بوش الوعاء الذي يمكن تفريغ الأوساخ في داخله. فهذه الفئة تدعي البراءة وتعتبر نفسها غير مسئولة وهي مكلفة بتنظيف قاعات «البيت الأبيض» وغرفه من آثار تلك الفئة التي غادرت تهرباً من مواجهة العواقب الوخيمة التي كانت تنتظرها لو قررت العكس.

«البيت الأبيض» الآن يحاول تنظيف سمعته وترتيب أوضاعه وتجديد دوره من خلال الإدعاء بوجود سياسة خارجية جديدة تعيد ترسيم الحدود في ضوء النتائج الميدانية التي أسفرت عنها الحروب العدوانية التي ارتكبتها هذه الزمرة الخبيثة وكتلة الشر التي استحكمت بالقرارات الأميركية خلال فترة السنوات الست الماضية.

ماذا في جعبة «البيت الأبيض» من بدائل؟ وما الجديد الذي يمكن أن تقدمه الفئة الثالثة التي قررت دخول معترك الحياة السياسية من خلال الإمساك بالمفاصل التي غادر مواقعها المحافظون الجدد؟

لاشك في أن الملف العراقي يشكل الآن الهاجس الأمني/ السياسي للولايات المتحدة وبالتالي فهو يقع في سلم الأولويات التي تضغط على الإدارة والرئاسة. ولكن هذه الأولوية ليست مفصولة أو معزولة عن ملفات أخرى في المنطقة لا تقل أهمية وخطورة عن العراق. فهناك الملف النووي الإيراني والأسلوب الأنجع في معالجته. وهناك أمن منطقة الخليج وتأمين حقول النفط وأنابيب الإمدادات وطرق النقل. وهناك أمن «إسرائيل» والنقاط العالقة في ملف الصراع العربي/ الإسرائيلي وما يتفرغ عنه من ملفات تتصل بلبنان وسورية وغيرها من مشكلات تمس جوهر القضية الفلسطينية وحق العودة.

يمكن الاكتفاء بهذا القدر من المشكلات لأن الملفات الموضوعة على طاولة الرئيس الأميركي في المكتب البيضاوي كثيرة ولا تحصى. فهناك مثلاً ملف أميركا اللاتينية والصفعات المتتالية التي تتلقها الولايات المتحدة والمتمثلة بخروج أكثر من ست دول من تحت مظلة «اليانكي». وهناك ملف كوريا الشمالية النووي وأمن أصدقاء أميركا في المنطقة (اليابان، وتايوان، وكوريا الجنوبية). وهناك صعود نجم الصين في سماء العلاقات الدولية وموقعها المميز في التجارة العالمية. وهناك ملف عودة روسيا إلى لعب دور خاص في الساحة الدولية وما تمثله من ثقل سياسي ضاغط على دور الولايات المتحدة في أوروبا. وأيضاً يمكن وضع ملف العلاقات الباردة أو المتوترة أحياناً بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على طاولة الحوار لضمان عدم تكرار أسلوب التسلط الذي اتبعته واشنطن ضدها في الفترة الماضية.

ملفات قريبة وبعيدة

هناك ملفات بعيدة وقريبة تنتظر «الفئة الثالثة» الداخلة حديثاً إلى «البيت الأبيض». ومعظم تلك الملفات تحتاج إلى معالجات وتسويات يتوقع ألا يتم الانتهاء منها في الفترة المتبقية من ولاية بوش الثانية. فالرئيس الأميركي بقيت أمامه فترة تزيد قليلاً على السنتين وهي غير كافية لصوغ توجهات جديدة تنعش الاستراتيجية المتهالكة في العالم. لذلك يتوقع أن تضع الإدارة الجديدة سلسلة أولويات يرجح أن تبدأ بالملف العراقي الساخن.

بلاد الرافدين ستكون إذاً المدخل السياسي الجديد الذي ستحاول إدارة بوش استخدامه كواسطة للخروج من المأزق.

والسؤال ما هو الجديد الذي يمكن توقعه في هذا المجال؟ وزير الدفاع البديل روبرت غايتس قال خلال جولة الاستنطاق في الكونغرس «إن أميركا لم تنتصر في العراق ولكنها أيضاً لم تنهزم». وهذا يعني أن المناورة بين الحدين لاتزال واردة في عقل الوزير الجديد الذي قال أيضاً «إنه لا يؤيد اللجوء إلى حرب ضد إيران وسورية، إلا إذا كان هذا هو الحل الوحيد». وهذا يعني أن المناورة بين الحرب والسلم لاتزال محسوبة ضمن الخطط الاستراتيجية المقبلة. وقال غايتس أيضاً «إنه لا يمانع في إعطاء دور لسورية وإيران للمساعدة على التوصل إلى حل لوقف العنف». ولكنه أعرب عن شكوكه بقدرة طهران على لعب دور المساعد.

كلام وزير الدفاع الجديد فيه الكثير من الألغام فهو يضرب يمنة ويسرة ويحاول قدر الإمكان عدم التورط في وعود نهائية وقاطعة. فهو اعترف بنصف نجاح ونصف فشل ولكنه ترك القرار الأخير للانسحاب من العراق للجنرالات في اعتبار أنهم يعرفون أكثر من غيرهم بالظروف والحاجات. ولكن الوزير أشار في أجوبته على أسئلة أعضاء الكونغرس أن أمام الولايات المتحدة قرابة السنتين لمعالجة الملف العراقي وإلا ستسقط المنطقة في «حريق إقليمي».

ماذا يعني الحريق الإقليمي؟ فهذا الكلام جديد في السياسة الأميركية أو على الأقل يعلن عنه للمرة الأولى بوضوح. فقد يكون «الحريق الإقليمي» خطوة خطط لها تيار «المحافظين الجدد» منذ بدء الاحتلال والتقويض والتدمير وتفكيك العلاقات الأهلية ودفع الطوائف والمذاهب إلى الاقتتال وعندما تأكد من نجاح مقوماتها قرر الهرب تاركاً لغيره تحمل مسئولية اندلاع الحريق.

الكلام عن احتمال اندلاع «حريق إقليمي» يشكل حجر زاوية في رؤية اتجاهات الاستراتيجية المقبلة في السياسة الأميركية. والخطورة في المسألة أن تكون الإدارة قررت تبديل الأقنعة وتبديل الوجوه التي احترقت أوراقها وأخذت تضغط على واشنطن من كل الاتجاهات. فهل مغادرة رامسفيلد وبولتون وغيرهما تعني نهاية مرحلة أم أنها تشكل خطوة في سياسة فاشلة قررت إجراء مناورة أخيرة قبل خروجها من «البيت الأبيض»؟

لا توجد أجوبة جاهزة في اعتبار أن البدائل تعتبر من الوجوه التقليدية في السياسة الأميركية الخارجية. فهذه الأمتعة محسوبة على تيار الواقعية (البراغماتية) السياسية التي اشتهرت بها الولايات المتحدة تقليدياً.

هذا هو الظاهر من المسألة أما الباطن فلا يمكن معرفته قبل التعرف عليه. مثلاً هل ستلجأ الفئة الثالثة إلى أسلوب الصفقات من نوع اعطونا في العراق نعطيكم في لبنان؟ وهل مثلاً ستلجأ إلى أسلوب المقايضة بين ملف وآخر من نوع نعيد الملف النووي إلى طاولة المفاوضات مقابل المساعدة في احتواء الملف العراقي؟

لا تعرف التكتيكات التي ستستخدمها الفئة الثالثة الداخلة حديثاً إلى «البيت الأبيض» ولكن الأسابيع وربما الشهور المقبلة ستكشف عن الكثير من الخفايا والزوايا الغامضة.

عملياً حتى الآن تم الاعتراف بوجود اتصالات سرية مباشرة وغير مباشرة مع دمشق وطهران. وهذا الاعتراف أكده مصدر سوري رسمي حين أعلن عن لقاءات تمت في نيويورك بين وزير الخارجية وليد المعلم ولجنة بيكر- هاملتون. واللقاءات التي كشفتها دمشق قالت إنها كانت شاملة وناجحة وتمت على أربع جولات عقدت في سبتمبر/ أيلول الماضي أي بعد أسبوعين من توقف العدوان الأميركي- الإسرائيلي على لبنان.

ليس المهم موضوع اللقاءات الأميركية - السورية وإنما تلك الخطوات التي أعقبتها ويمكن تخليصها بالمفارقات الآتية:

أولاً، زيارة المعلم إلى بغداد وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع حكومة العراق بعد انقطاع بدأ منذ العام 1983.

ثانياً، زيارة جلال طالباني إلى طهران التي وصفت بالناجحة.

ثالثاً، زيارة نوري المالكي إلى الأردن واتفاقه مع الرئيس الأميركي بإطلاق سراح الجيش العراقي ورفع القيود عن تحركاته الأمر الذي رحب به طالباني في تصريح لافت.

رابعاً، زيارة رئيس مجلس قيادة الثورة عبدالعزيز الحكيم إلى واشنطن واجتماعه مع بوش في «البيت الأبيض» ومناقشة تبعات الانسحاب من العراق.

كل هذه الإعلانات والتحركات والاتصالات تشير إلى وجود تكتيكات جديدة في الاستراتيجية الأميركية ويبدو أنها ابتدأت منذ فترة طويلة وقبل مغادرة رامسفيلد «البنتاغون» أو استقالة بولتون من منصبه في الأمم المتحدة. فالإدارة كما يبدو اتخذت قرارات في اتباع تكتيكات جديدة قبل فترة وهذا ما يفسر الكثير من التحولات في الأمزجة والتحركات سواء في فلسطين أو لبنان.

حتى الآن لم تتوضح معالم الصورة ولا يعرف إذا كان «البيت الأبيض» دخل في رهان جديد على سياسة الصفقات والمقايضة التي اشتهرت بها واشنطن أم أنه دخل سياسية تبديل الوجوه والأقنعة للحد من الضغوط وكسب الوقت تمهيداً لما ذكره وزير الدفاع الجديد من مخاوف اندلاع «حريق إقليمي» في منطقة «الشرق الأوسط»؟

الجواب يحتاج إلى وقت وهروب تيار «المحافظين الجدد» من نيران «البيت الأبيض» لا يعني بالضرورة أن أميركا تغيرت وباتت ذاك الحمل الوديع الذي يستحق المساعدة لتأمين المخارج وملاذات آمنه له مقابل ترك المنطقة تنزلق نحو «حريق إقليمي»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1553 - الأربعاء 06 ديسمبر 2006م الموافق 15 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً