العدد 1553 - الأربعاء 06 ديسمبر 2006م الموافق 15 ذي القعدة 1427هـ

لقاءات صحافية وجولات في «دير» البساتين

حسين راشد الصباغ comments [at] alwasatnews.com

كنت ألمحه حاضراً ومشاركاً في كثير من الندوات والمحاضرات التي أغشاها بين الفينة والأخرى. أجده ممسكاً قلمه وكراسته الصغيرة يدون فيها ملاحظات لم أتبين كنهها، إلاّ أنني أدركت أنه يؤدي مهنة صحافية أو ثقافية على خير وجه، وما لفت نظري أنه بدين للغاية، وعلى رغم ذلك تبدو حركته على رغم بطئها طبيعية ومعتدلة، ومنذ سنتين ونيف شرفني بطلعته البهية وابتسامته العريضة في منزلي لكي يجري معي مقابلة صحافية للنشر في صحيفة «الوسط»، عن مشواري الإعلامي والدبلوماسي، وكانت مبادرة كريمة من رئيس التحرير منصور الجمري.

جاء أولاًً مصور الصحيفة الذي ذكرني اسمه بفريق المخارقة في الستينات، حيث كنت أذرعه طولاً وعرضاً في طريقي إلى أسواق المنامة عندما أوقف سيارتي قريباً من برادات رضا جباري، ومن بائع الخضار والفاكهة الأستاذ رضا الذي ترك مهنة التدريس وأصبح مشهوراً بسبب جودة بضاعته وأمانته ومودته لزبائنه، ولا أدري ما فعلت به وبصاحبه الأيام.

اندهش المصور لتأخر قدوم الصحافي الذي سيجري المقابلة، وقال إن مواعيده دقيقة كعقارب الساعة. إنها السيارة الملعونة التي «حرنت» اليوم وتركت صاحبها في ورطة لا يستطيع الخروج منها. وعندما وصل بعد حين أدركت أنه هو ذاك الشخص البدين الذي طالما أثار فضولي، فهو يعمل في مهنة المتاعب، صاحبة الجلالة، السلطة الرابعة. ووجدته يمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل على حد قول شاعرنا العظيم الأعشى، وعند تقديم نفسه كان على قدر كبير من التهذيب، فهو وديع حبيب، إذ اعتذر بشدة لتأخره غير المقصود، ووجدته لماحاً سريع البديهة في كلماته وتعليقاته السريعة والبليغة، إذ تفي بالغرض المطلوب.

استغرقت الدردشة الصحافية أكثر من ساعتين، فتحدثت عن مختلف الميادين التي عملت فيها والمحطات التي عبرتها وما فيها من مطبات ونجاحات وإخفاقات. ذكّرني وهو يحاورني بالشاعر والكاتب المصري كامل الشناوي الذي التقيته عدة مرات في مجلس العقاد في مصر الجديدة في الخمسينات ومطلع الستينات، وكان العقاد قد انتقل إلى جوار ربه في يناير/ كانزن الثاني 1964 حيث كنت أعمل مدرساً في بابكو حين نقل إلي خبر وفاته. لم أتمالك من ذرف دموع حارة على رحيل هذا العبقري العظيم الذي أخرج لنا الكثير من المؤلفات المهمة، وعلى رأسها عبقرياته الموسومة.

في مجلس العقاد كنت برفقة الطلبة المصريين الجامعيين، وكنا معجبين به وبمسيرته الأدبية والفكرية بل والسياسية. كان كامل كما صاحبنا الصحافي هذا، يملأ كل منهما أريكته. كما ذكرني بالرسام والفنان الراحل صلاح جاهين الذي التقيته في القاهرة مرات قليلة جداً، على عكس الشناوي، وكلاهما شاعر وفنان وصاحب نكتة وحس فكاهي. ودخل صلاح جاهين السجن لأيام عدة عقاباً له على انتقاده لاتفاق السلام المبرم بين مصر و»إسرائيل»، ورسم الكاريكاتور وعلق عليه بقوله «كارتر خيرك بدل كثر خيرك»، وهو الرئيس الأميركي الذي وقع اتفاق كامب ديفيد في 1978 مع الرئيس أنور السادات، «كبير العائلة المصرية» كما كان يطلق على نفسه رحمه الله.

بعد هذه المقابلة ازدادت علاقتي وصداقتي بذاك الصحافي، وكنت أتابع بشغف واهتمام كل ما تجود به قريحته من أشعار رقيقة لا يعدم المتذوق لها من تمتعها بمشاعر صادقة ودفق وجداني وجرس وموسيقى داخلية وتفعيلة عروضية، وفي هذا المقام أذكر له قصيدة جميلة نشرت في «الوسط» منذ مطلع هذا العام، وعنوانها «ولربما عبرت». وأذكر أنه دعاني إلى غداء حميم في منزله الجميل على غداء (محمر وسمك صافي). وبعد الغداء تجولت معه في قريته التي أخذتني إلى ذكريات أيام الطفولة قبل خمسين عاماً. القرية أصبحت اليوم ضاحيةً أو مدينةً صغيرةً، لبثنا وقتاً قبالة ساحل البحر. إنه سيكون ميناء ومرفأ للسفن وكان هناك ردم وتوسع في البحر لاكتساب أراضٍ جديدة.

سألته عن تلك المنتجعات الصيفية (التينة وريّة) التي كانت مأوى المصطافين في شهور الصيف، وكيف اختفت البساتين المحيطة بالقرية لتحل محلها بيوت كثيرة، كنا في الخمسينات ننعم برطبها وتينها وثمارها المختلفة ونسبح في بركها ذات المياه الرقراقة العذبة. كلها تحولت إلى ديار عامرة بالبيوت والفلل. وقدم صاحبنا شراب «السفن أب»، إلا أن العلبة انسكبت على هاتفي المحمول وأغرقته فأصبح معطوباً وفشلت كل الجهود في إصلاحه.

واستضفت صاحبنا بوليمة أخرى في أحد فنادق الخمس نجوم، إلا أني حرصت ألا أحمل معي هاتفي الجديد وأبقيته في السيارة خوفاً من العيون!

صاحبي البدين قلما تفارقه الابتسامة، فهو ينشر من حوله البهجة والانشراح، ويقابل تهكم الآخرين على بدانته بردود ساخرة خفيفة الظل والروح. وفي أميركا والغرب هناك أندية لا يدخلها إلاّ البدناء، ومن يدري لعل العدوى تنتقل إلينا في القريب المنظور

إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"

العدد 1553 - الأربعاء 06 ديسمبر 2006م الموافق 15 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً