حين تتقمص المعارضة دور الدولة، وتقوم بأخطر مهماتها من مصادرة الرأي، وإلغاء ما عداها من أطياف، وإشاعة ثقافة التخوين، والترخيص لدكاكين الصكوك التي ترفع من قدْر هذا وتحط من قدْر ذاك، تصبح الدولة في مفارقة عجيبة هي المعارضة الحقيقية! لأننا وضمن معايشات يومية، لم تفرزها فقط حمى الانتخابات التي تشهدها المملكة هذه الأيام، نرى أن الدولة لديها من النَفَس الإضافي الكثير في تحمّل ما يوجّه إليها من نقد مباشر، بعض منطلقاته حقيقي لا غبار عليه، والبعض الآخر لا يخلو من مزايدات وتهويلات، فيما طيف من المعارضة اليوم يضع نفسه قبالة النص الديني، ويرتّب تعامل الآخر معه بشروط تعامله مع النص الديني، مكتسبا - عنوة - قداسته من قداسة النص الذي لا تجوز مساءلته، عدا عن الخروج عليه! هذه الدرجة من التوّرم والضيق تكشف عن مأزق أخلاقي بالدرجة الأولى يظل هو المفتاح القادر فقط على إيصاد الأبواب وإحكام إغلاقها!
ربما كشفت الأيام القليلة الماضية عن حقيقة واحدة بشكل ظاهر وبيّن، أن الذين يصرون على احتكارهم للدين، بل واختطافه، هم أول اللاعبين بأوراقه في هذه الممارسة، اعتماداً على شارع مهلهل في وعيه ومنتهب، وتظل الآخرة هي موضوع الدنيا في برامجهم قبالة هذا الحراك.
المأساة أن ذاكرة الجماهير ضمن هذه الدرجة الحرجة والضامرة من الوعي تصر على عدم تعلم الدرس، وسرعان ما تنسى أو تتناسى، خصوصا مع اعتماد المحتكرين والمختطفين للدين على تبديل أجندات أو التلاعب بها. فالخطاب وفير، والبلاغة حاضرة، والمنصات متجذرة في كل بقعة، وهي أدوات تطعم في النهاية وهماً أكثر من الخبز، وتوهم بتقريب البعيد من الأحلام، التي يراد لها أن تكون بعيدة لضمان استمرار احتكار الدين واختطافه!
***
حين يتحوّل الشاعر إلى تاجر... والأستاذ إلى حاكٍ... والحكيم إلى مهرّج... والعالِم إلى مكرّس لعصر ما قبل اكتشاف النار... والفقيه إلى تبرير ضروري يقتضيه الوقت... والمهندس إلى مندوب للخراب... والمحامي إلى جاسوس... واللغوي إلى مطرب بدوام جزئي في فندق ثلاث نجوم... والموسيقي إلى قرص مدمج... والفيزيائي إلى قارئ للطالع... والكيميائي إلى دجّال... والطيّار إلى قائد فرقة من المقعدين والكُسالى... وعالِم الزلازل إلى كائن مصاب بالفالج... والمذيع إلى صدىً لا يشبه شيئاً... والصحافي إلى مكنسة في الدواوين... والممثل إلى مُزوّر للمستقبل... والكاتب إلى وكيل معتمد لتجميل القبح... والجندي إلى حارس للاختراق... والحارس إلى متواطئ مع اللصوص... والشجرة إلى محرّضة على الانحناء... والبرق إلى إشاعة تتلمّس الماثل... والمطر إلى نافذة تطل على الموت الموسمي ... والفرح إلى مباهاة فائضة عن الحاجة... والحضور إلى ما بعد شواهد الغياب. يصبح العالَم، وكل أولئك محْض منام بعد حفلة زار وعربدة تنبت كالفطْر في تربة نائية لا مفر من أن نتحول فيها إلى مواطئ أقدام
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1553 - الأربعاء 06 ديسمبر 2006م الموافق 15 ذي القعدة 1427هـ