شخصياً عرفته منذ الثمانينات خلال لقاء أدبي في بيروت، اكتشفت كائناً سجالياً بامتياز، يمتلك أفقاً نوعياً، جعل ذلك من تجربته محتدمة، فشخصيته تقترح شخصية الكاتب الإيجابية الفعّالة، نجح في ابتكار الوسائط الثقافية، وهو يشكل جسرا نشطاً بين الثقافة العربية والعالم، ليصبح بنيس طموحا غير مستقر لبلورة المفاهيم، وهو بذلك حلقة حوار بين الثقافات. يشكل بنيس جوهر المراصد التي لا تعرف التخوم. وعليه، فإننا ننتظر أن يأخذنا إلى شطح جديد كما هي عادته، وهي علامته في الحياة... بهذه الكلمات قدم قاسم حداد ضيفه الشاعر محمد بنيس، في أمسية أقيمت له ببيت الشعر (بيت إبراهيم العريض)، برعاية الشيخة مي آل خليفة.
بمدينة العلم المغربية القديمة، بمدينة فاس ولد الشاعر المغربي محمد بنيس العام 1948م، أخذ إجازته في الأدب من كلية العلوم الإنسانية سنة 1978م، وحصل على دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة الرباط، ثم حصل على شهادة دكتوراه الدولة من الجامعة نفسها سنة 1988م، عملا أستاذا للشعر العربي الحديث بجامعة الرباط.
أحد المؤسسين لبيت الشعر المغربي، وهو الرئيس الحالي له، كما قام بتأسيس مجلة «الثقافة الجديدة» العام 1974م، تساوقت تجربة بنيس الشعرية مع توجهاته واهتماماته بالتنظير للشعر، ومن أهم الانعطافات التي أضاءت تجربة بنيس في مجال التنظير بيانه المشترك في كتاب «بيانات» المطبوع سنة 1993م، الصادر عن أسرة الأدباء والكتاب، مع مجموعة من الشعراء، منهم الشاعر أدونيس وقاسم حداد.
تقدم إلى المنصة شاعر ذو قامة فارعة، يخط الشيب شعره الطويل، وبكل هدوء بدأ ينثر كلامه، ويوزع زنابق الماء على الحضور، في أول دخوله لبهو الحديث قال: «لي غبطة أن أكون معكم، نتقاسم فرح تقاسم الشعر»، وحين عرج على المغرب الذي أتى منه اعتبر بنيس أن مقولة مغرب ومشرق وهم، «هي أوهام تفصل المشرق عن المغرب»، ولذلك فإنه «أتى من الشعر والمغامرة»، فهي أرضه التي يذهب منها ويذهب إليها.
ألقى أول نصوصه بعنوان «رسالة إلى عشتار»، كانت قصيدة مندفعة في بنائها التفعيلي، فكان مفاجأة إذ عرف بنيس كشاعر نثري، وما أثار ذلك أكثر كونه قادما من المغربي العربي، أو المغرب الوهم كما يصفه، وهو أحد أهم الرموز في فضاء الشكل النثري للشعر، ليواصل دهشة المتلقي بنص آخر تحت عنوان «فاس من جهة لا نراها»، اعتمد خلالها الدفق التفعيلي، كما انتبه للقوافي الفرعية في نصه. هذا النص كان يحمل شحنة شفافة، فهو يقدم مدينة فاس، ويتحدث عن امرأة فادحة، يقول عنها «من يسمع فاس تغني»، تميز إلقاء بنيس بالتقطيع الحاد بين الكلمات، والتشديد على بعض الحروف.
ثم تناوب في إلقاء نصوص قصيرة ابتدأها بنص «اهبط» ليليه نص «صمت» و «دنس» و «طيش» و «العابرون» و «عمى»، مقترحا في النص الأخير أن «طيور قادتني بتوزعها لعماي»، تبع هذه النصوص القصيرة بنص عنونه بـ «لغة»، يقول فيه: «لغة من قبل ماتت»، «مثل منبوذ تطاردها الذئاب»، «لغة بها فتشتُ عن لغتي»، «مقبرة بموتاها على بابي».
كانت الصحراء هذه المرة حاضرة في نص بنيس، فقدم قصيدة بعنوان «عن الصحراء»، هذه الصحراء التي ستكون «على بيت ستذكره القصائد وحدها، من شدة الوحدة»، وهذه الصحراء التي تدخل بنيس وتتشبث به كما لا «يملك الشعراء أن يتشبثوا بك أوفياء»، وهو «يجاهر في الفناء»، فتخللت الصحراء جسد القصيدة، فكانت التدويرة التي يقف وينطلق منها بنيس.
عند توقده كشعلة مجوسية ألقى بنص «لك الأحجار» اهداءً لصديقه قاسم حداد، يقول له فيه «لا أدري كيف تركت يدي»، «فيحدث أن تضيء حجارة أرض الطفولة»، فهل «أنت الدليل إلى القوافل»، «قف تختارك أحجار من أعلى نزلت وهي تغني»، ليشعل الصمت بمقولته «أفضل الشراب ما يزين بالصمت». وفي ختام أمسيته سألته عن هذه التجربة التي قدمها، عن هذا الجيل الذي ينتمي له بنيس، جيل له قدرة على كتابة جميع الأشكال الشعرية المختلفة، ومن خلال هذه الأمسية استعرض بنيس تجربته التفعيلية، فقال إن النص أو القصيدة هي من اقترحت الشكل في البداية، وما كان مني إلا أن تماشيت مع النص فقط
العدد 1553 - الأربعاء 06 ديسمبر 2006م الموافق 15 ذي القعدة 1427هـ