الفنان جبار الغضبان «أول الحفارين العائدين»، اتسمت شخوصه كما يقول أسعد عرابي بالإحباط، حمل بين أمتعته عائداً من دمشق «احتدامات التعبيرية السورية، ومفاهيمها عن مركزية الإنسان في الفضاء التشكيلي»، فهل صدق عرابي بحيث مازال الإنسان مركزاً لهذا الفنان؟
يرجع بعض المؤرخين فن رسم الوجوه إلى ما قبل التاريخ، وذلك من خلال الرسومات التي وجدت في الكهوف والمعابد، ولدى الحضارات القديمة في العالم، ثم ازدهرت في المنحوتات الرومانية والسكوك النقدية، لتتراجع بعد القرن الرابع عشر مقابل الرموز الدينية والأباطرة، كانت هذه الأعمال تعتمد على رسم الشكل الخارجي للموضوع، في حين كان بعض الفنانين لديهم محاولات للتعبير عن الجوهر من خلال ملامح الوجوه في أعمالهم.
يقول علماء النفس إن ملامح الوجوه تدل على طبيعة الشخصية، وهنا نجد هذه المواضيع التي حاول الغضبان ملامستها من خلال تكرار الوجوه، وهو ما يعكس شيئاً من شخصية الرّسام، تراوحت هذه الوجوه بحسب الحال النفسية التي تسكن ملامح الأعمال المقدمة، إلا أنه غلب عليها طابع الوقار والسكينة، وإن مسح بعضها بألوان داكنة تتعاضد مع الملامح في نزعة حزن. وإذا حاولنا التمعن في عيون النساء اللائي قدمهن الغضبان فسنجد انطفاء يتسرب منهن، ونجد ربات بيوت أنهكهن العمل اليومي، والاختلاف الذي يقدمه الغضبان عن التجربة الأوروبية التي اشتهرت برسم وجوه الملوك والأيقونات الدينية، سواء على الكنائس أو خارجها، أنه لم يقدم شخوصاً مشهورة أو معروفة، بل رسم الفقراء والرازحين تحت عجلة الحياة، جاعلا من هذه الوجوه امتدادا لذاكرته وتراثه، وموضوعا يتحدث عن «معاصر»، وإن كانت هذه الوجوه لا تطابق الواقع، إلا أنها تستمد حيويتها وأشكالها منه، وهي بذلك محاولة لملامسة جوهر الأشياء، إذ تسقط الصفات المختلفة وتبقي على المشترك بينها، فقد تتحول هذه المرأة أو الوجه الذي قدمه الغضبان إلى رمز دلالي يحتمل أكثر من مصداق، بحيث يصح أن نسقطه على الأم أو المرأة أو حتى البحرين كوطن.
وخلال اعتكاف الغضبان على هذه التجربة، في ورشته التي يتقاسمها مع الفنان عباس يوسف، تابعنا هذه التجربة عن قرب، فمنذ رسمها إلى وصولها لصالة الرواق، كنّا نحاول رصد هذه التجربة عن قرب. قدم الغضبان خلال معرضه هذا أكثر من ثلاثين عملاً، كان الموضوع الرئيسي فيها الوجه، هذا الوجه المصطبغ بالخصوصية من جانب، والعالمية من جانب آخر، إذ يتعالق مع الأيقونات الدينية كتراث إنساني. وجوه الغضبان غلب عليها الجانب الطولي، سواء في أجزاء الوجه أو الجسد، فنجد أكثر الأعمال تتميز فيها العنق المستطيلة، والأنف الممتشق، لكن اختلفت فيما بينها في الحال الشعورية من فرح وحزن، ومن اختلاف في الألوان، إلا أنها حافظت على شفافية اللباس، ولم تتخف من اللباس التقليدي (المشمر) في جميع الأعمال المقدمة، ليصبح صفة لازمة لهذه التجربة المقدمة.
يقول الغضبان عن تجربته في هذا المعرض «إن التجربة التي أقدمها هي محاولة للاهتمام بفن الرسم، فقد بدأ التململ يتغلغل في أوصال الواقعية، إذ داخلها الجمود، في حين أنني لا أرسم من الواقع، بقدر ما أرسم من ذاكرة طفولتي وتراث القرى، هذه العناصر التي تركت انطباعاً كبيراً في ذاكرتي، فأتت فكرة هذا المعرض حين تسللت إليَّ هذه الذاكرة، فأتت على شكل وجوه ذات شكل متشابه، لكنه مختلف من حيث اختزاله للحالات الإنسانية المختلفة».
ويردف أن «موضوع الطبيعة ساورني كثيراً، بعد النزاع بين مواضيع عدة، كانت الغلبة فيها للوجوه، التي شكلت امتداداً للحفر لدي، علما أن موضوع الوجوه تم تناوله من قبل الكثير من الفنانين، لكن رسمت وجوهي أنا. هذه الوجوه التي حملت كماً من البساطة مع اختزالها قوة الجمالية الخاصة، تنتمي لعائلة واحدة هي الذاكرة، فقد رسمتها بكل حب وجدية، فحاولت إعطاء اللوحات حقها، لذلك أتلفت الكثير من الأعمال التي وجدتها غير صادقة، أو احتملت دخول الافتعال في تقاسيمها».
ويتابع «في أعمالي التي أقدمها ستجد أني ركزت على الوجه، بكثافة تعبيرية، مضافاً إله البعد الجمالي في اللون والشكل... وهذه الوجوه تعاملت معها خلال تجربتي الفنية الطويلة، إلا أن هذه التجربة وهذه الأعمال إلى جانب تركيزها على الوجوه أظهرت جمالية الغطاء التقليدي (المشمر)، وهو لباس القرويات وأمهاتنا، إنه يبرز ملامح الأنوثة في المرأة، كما هو لباس السيدة العذراء أيضاً، فهذه التجربة قد تنتج في بيئة محلية، لكنها تتعالق مع ما هو من التراث العالمي، وذلك عبر خبرة الفنان البصرية، كما يعد هذا اللباس رمزاً للحشمة لدى الكثير من الشعوب أيضاً، ومن هنا تأتي المفارقة بين كونه يبرز الأنوثة وكونه رمزا للحشمة.
وخلال انتقالك بين أعمالي المقدمة لن تجد يداً أو رجلاً ظاهرة في العمل، وذلك ما تعمدته للتركيز على جمالية الوجه، وهو ما يختلف فيه عن (الموديل) الغربي الحديث، إذ يُظهر أعضاء الجسد، لكنني في الأعمال المقدمة أخفيت هذه الأعضاء خلف (المشمر)، لأمنح الوجه مركزيته من العمل، هذا الوجه الذي يحمل أسرار الجمالية، كما يحمل قدرا كبيرا من الشحنات العاطفية».
ويذكر أنه «بعد انقطاع طويل من التعامل مع الزيتي، شعرت بالحنين لهذه المادة، هذه المادة صاحبة المفعول السحري، التي كان لاكتشافها قبل خمسة قرون الفضل في تغيير خريطة الفن المعاصر والفن عموماً، فستجد تفاوت الألوان في العمل الواحد يتسلل لكل التجارب المقدمة، وهي تقارب في عددها خمسة وثلاثين عملاً، كان التفاوت في اللون داخل العمل نتاج حال ارتبطت بالثقافة البصرية، واصطبغت بلمسات ذاكرتي، وهذا التناغم بين الألوان الداكنة والفاتحة قد تكون لها مداليل كثيرة، في محصلتها توظيف سمة الوجوه وإبرازها».
ويختم بأنها «وجوه غلب عليها الهدوء والسكينة، ترتدي ثياباً بعضها مزخرف، إلا أن هذه الزخرفة لم أغلِّبها على روح الموضوع، في حين أن تاريخ رسم الوجوه يعود للمراحل الأولى من عمر البشرية، كما نجده منذ أيام السيد المسيح (ع) أيضاً، فبعد تطور المجتمع من المشاع إلى الإقطاع ظهر ما يسمى بـ (البورتريه)، وهنا في هذه التجربة وإن تشابهت الوجوه فإن لكل وجه ملامحه الخاصة وألوانه ولباسه أيضاً، وهذا ما كسر مفهوم التكرار البليد الذي أتصوره».
الغضبان يعرض اعماله اليوم في صالة الرواق، حيث يبوح أيضاً بأشياء اخرى... شاهدوها هناك
العدد 1553 - الأربعاء 06 ديسمبر 2006م الموافق 15 ذي القعدة 1427هـ