العدد 2475 - الثلثاء 16 يونيو 2009م الموافق 22 جمادى الآخرة 1430هـ

دولة الواجبات الخصوصية

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

أن يفكر شخص نباتي في الانضمام إلى نادٍ مخصص للنباتيين فقط، فهذا شأن خاص لا يثير أي جدل عام. والحال هو هو حين يقرّر شخص سمين الانضمام إلى نادٍ يضم في عضويته البدناء فقط، أو حين يقرّر شخص مدافع عن البيئة أو عن حقوق الحيوان الانضمام إلى جمعية بيئية أو جمعية للرفق بالحيوان. إلا أن الوضع مختلف تماما حين يقرر شخص شيعي الانضمام إلى جمعية خاصة بالشيعة، أو حين ينضم شخص سني إلى عضوية نادٍ خاص بالسنة، وكذا الحال حين ينضم مسيحي أو يهودي إلى جمعية مسيحية أو يهودية.

لماذا لا تثير العضوية الأولى جدلا عاما، في حين قد تثور ثائرة كثير من الحداثيين، عندنا، من قوميين ويساريين وليبراليين، على العضوية الثانية؟

ليس من العسير معرفة مسببات هذا النفور لدى القوميين واليسار؛ فالقوميون يتعاملون مع الانتماءات المذهبية والدينية على أنها انتماءات فرعية وجزئية، وهي بمثابة وصفات جاهزة وخبيثة لتمزيق الأمة، وتقسيم المجتمع، وتشجيع التعصّب والتخندق الطائفي، والخروج على الإجماع القومي. ولا يختلف اليسار عن القوميين كثيرا في هذا التحليل، إلا أن التركيز، لدى اليسار التقليدي، يتجاوز الانتماء القومي لينصبّ على «الانتماء الطبقي»، وهو انتماء أممي يتجاوز المسألة القومية والدينية. وهؤلاء يتصورّون أن التفاوت الطبقي هو التفاوت الحاسم في حياة البشر، أما الاختلافات المذهبية والدينية والقومية فليست أكثر من اختلافات سطحية وبـ»لا تاريخ» وستزول في نهاية المطاف. أضف إلى ذلك، أن لدى اليسار نفورا متجذرا تجاه الدين والمسألة الدينية على وجه العموم.

الوضع مختلف في حال الليبراليين، فهؤلاء يفهمون انتماء الفرد إلى جمعية مذهبية أو دينية على أنه تأكيد لحضور الجماعة، وتعميق لمركزيتها على حساب الفرد. الأمر الذي يؤسس لنوع «غريب» من الحقوق يطلق عليه «حقوق الجماعات»، في حين أن الحقوق، في الليبرالية، حقوق أفراد، وأنها تستهلك بصورة فردية لا جماعية. كما أن هذا النوع من الحقوق الجماعية سيخلّ بمبدأ ليبرالي مهم، وهو مبدأ المعاملة المتساوية أمام الدولة والقانون؛ لأن الحديث عن حقوق الجماعات يفتح الباب أمام الحديث عن حقوق سياسية ومدنية متنوعة ومتمايزة بحيث يكون لكل جماعة حقوقها الخاصة.

قد يكون لدى الليبراليين نفور عام من الانتماءات ذات الجذر الديني أو العرقي؛ وقد يرجع سبب ذلك إلى أن هذه الانتماءات تنطوي على التزامات فردية تجاه الجماعة، بل إن الجماعة قد تعمد إلى فرض هذه الالتزامات بالقوة والإكراه على كل فرد من أفرادها. الأمر الذي لا يحصل، في الغالب، لدى جمعية خاصة بالبدناء أو جمعية خاصة بهواة جمع الطوابع والعملات القديمة أو جمعية للمهتمين بتربية الحمام أو الصقور وما شابهها من أنشطة اجتماعية ومدنية عامة. ثم لا ننسى أن لدى الجماعات الثقافية أو العرقية الكثير من الواجبات الخصوصية، ويخشى الليبراليون من أن تتحول هذه الواجبات الخصوصية إلى قوانين عامة تقوم الدولة بفرضها على جميع المواطنين المختلفين. ويحدث هذا حين يكون للجماعة نفوذ واسع داخل الدولة في سلطتها التنفيذية أو التشريعية، فلو أن جماعة من الإسلاميين تحصّلوا على نفوذ واسع داخل الدولة، فإنهم قد يعمدون إلى تحويل واجباتهم الخصوصية إلى قوانين عامة تطبق على الجميع، فإذا كانت هذه الجماعة تؤمن بأن الحجاب واجب على كل امرأة، فإنهم سيلجأون إلى الدولة لفرضه على الجميع، كما أنهم سيلجأون إلى الدولة من أجل تحريم بيع أو تداول الخمور ولحم الخنزير، ومنع البيع والشراء أوقات الصلاة، وتحريم الأكل في نهار شهر رمضان. وبهذا تتحول الواجبات الدينية الخصوصية إلى قوانين عامة تُطبّق على المسلم وغير المسلم، المتديّن وغير المتديّن. وفي المقابل، لو تمكّنت جماعة علمانية متطرفة من الحصول على نفوذ واسع داخل الدولة، فإنها ستعمد إلى التضييق على الحرية الدينية، وإلى منع الرموز والمظاهر الدينية بقوة الدولة والقانون. وقد يحصل هذا مع أية جماعة مذهبية أو دينية أو قومية أو أيديولوجية.

بالطبع، ليس ثمة ما يمنع جمعية خاصة بالنباتيين من الحصول على نفوذ واسع داخل الدولة، الأمر الذي قد يمكّنها من فرض تعميمات تلزم الجميع بأكل الخس والخيار والبطاطا والباذنجان بدلا من الدجاج والخرفان. كما لا شيء يمنع جماعة مهتمة بالرفق بالحيوان من الانخراط في العمل السياسي من أجل الفوز بمقاعد نيابية تكفي لفرض قانون يجرّم ذبح الحيوانات وأكلها. ونحن نعرف أن ثمة حزبا سياسيا للدفاع عن حقوق الحيوان في لندن، وقد أعلن عن تأسيسه في ديسمبر/ كانون الأول 2006، كما يوجد في الدنمارك حزب مماثل تمكّن من إيصال اثنين من أعضائه إلى البرلمان هناك. ولنا أن نتصوّر نوعية القوانين التي سوف تسنّ في حال تمكن هذان الحزبان من الفوز بغالبية مقاعد البرلمان البريطاني أو الدنماركي. فمن المؤكّد أنهما سيعمدان إلى فرض التزاماتهما الخصوصية على الجميع.

أما في الدولة الأوتوقراطية، دولة «الأخ الكبير» كما يصفها أورويل، فإن اهتمامات وهوايات ورغبات الحاكم، وهو الفرد الذي يتمتع بالسلطة المطلقة، قد تتحوّل، بين ليلة وضحاها، إلى قوانين أو تعميمات تجتهد الدولة، كلّ الدولة، من أجل فرضها أو تعميمها. فإذا كان الحاكم من هواة الصيد بالصقور، أو من المهتمين بتربية الحمير أو الكلاب النادرة، أو من المهتمين بجمع السيارات القديمة، أو من هواة العناية بالحدائق وتجميلها وتنسيقها، فإن على الدولة أن تسعى بأكملها من أجل تعميم هذه الاهتمامات والهوايات على الجميع. وعلى هذا، فسوف ترى مؤسسات الدولة مزدانة بصور الصقور أو الحمير والكلاب النادرة أو الحدائق المنسّقة، وقد تبادر جهة حكومية ما إلى الإعلان عن جوائز كبرى لمسابقة الصيد بالصقور أو لسباق الحمير أو لمسابقة أقدم سيارة أو أجمل كلب أو حديقة. وليس ثمة ما يمنع الدولة من سنّ قانون يلزم جميع المواطنين بتعليق صور الصقور أو الحمير أو الكلاب أو السيارات القديمة على مداخل منازلهم، أو بتخصيص جزء من منازلهم من أجل الحديقة، وإلزامهم بالعناية بها وتنسيقها!

هذا يعني أن القضية لا تتعلق بالجماعات الدينية أو العرقية ولا بتسييس مطالبها؛ لأن كل الجماعات قد تلجأ إلى الدولة من أجل تحويل واجباتها أو اهتماماتها الخصوصية إلى قوانين عامة تلزم الجميع بها، بل إن القضية تتعلق، بالدرجة الأولى، بنظام الحقوق ومعايير التشريع ومرجعياته داخل الدولة، وخاصة الدولة ذات التعدديات الدينية أو العرقية، فبدل أن تكون الدولة دولة القانون، إذا بها تتحول إلى دولة الواجبات الخصوصية.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2475 - الثلثاء 16 يونيو 2009م الموافق 22 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً