العدد 1552 - الثلثاء 05 ديسمبر 2006م الموافق 14 ذي القعدة 1427هـ

لبنان رأس الهرم العربي المقلوب

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أخبار لبنان سيئة وهي تنذر بعاصفة تقتلع ما تبقى منه من عناصر قوة وممانعة. فقبل مضي أسبوع على اعتصام «8 آذار» في ساحتي رياض الصلح والشهداء في بيروت بدأت التشنجات الأهلية والاستقطابات الطائفية والمذهبية تطغى على الأصوات السياسية الداعية إلى إسقاط حكومة فؤاد السنيورة من طريق استخدام الشارع.

هذا الاحتمال كان متوقعاً وهو ليس جديداً على لبنان. وإذا لم تتدارك القوى المعنية خطورة سلبيات الموضوع فمعنى ذلك أن البلد الصغير والجميل مقبل على هزات ارتدادية ناجمة أصلاً عن ذاك العدوان الأميركي - الإسرائيلي الذي ارتكب بدءاً من 12 يوليو/ تموز الماضي. فالزلزال الذي ضرب لبنان لمدة نحو 34 يوماً وحطم بناه الحجرية والسكانية أسفر عن خلخلة تلك الانقسامات الأهلية التي تأسس عليها الكيان منذ العام 1920. والآن يبدو البلد يتجه نحو تصادم داخلي لا يستبعد في حال وقوعه أن يسهم في تمزيقه وبعثرته إلى مناطق تتنازع على السيطرة انطلاقاً من هواجس أمنية تتحرك وفق آليات تتحكم بها الغرائز الطائفية والمذهبية.

المخاطر إذاً كثيرة وهي في حال انفلاتها من السيطرة ستؤدي هذه المرة إلى انشطار الدولة (الضعيفة والمشلولة أصلاً) وانهيار المقاومة وما تعنيه من خصائص شكلت على مدار 20 سنة منطقة اجتماع وتوافق. وما يحصل الآن سيؤدي إلى توجيه إصابات قاتلة للمقاومة وسيدفعها نحو موقع مضاد لمنطقها الخاص. وفي حال حصل هذا الأمر فإن قوانين الواقع وشروط الشارع وظروف السوق ستعمد إلى حقن الأجواء وتوتيرها وتأسيس عداءات غير مسئولة ستهز تلك الصورة والسمعة وتضعها في مكان ينتج التفكيك لا التوحيد.

المسألة خطيرة جداً وهي لا تقتصر على إضعاف الدولة وإنما تعمد على إنهاك المقاومة وجرجرتها إلى شبكة علاقات أهلية تضخ على الشاشة السياسية الكثير من التشوهات الطائفية والمذهبية التي تأسس عليها الكيان اللبناني.

الدولة انهزمت خلال فترة العدوان الأميركي - الإسرائيلي الأخير. وفي حال استدرج لبنان من جديد ليكون ساحة مكشوفة ومفتوحة للصراعات الدولية والإقليمية ستكون المقاومة هي ضحية ذاك الاقتتال الأهلي الذي بدأ يتشكل على صورة العراق ومثاله.

الفرصة لم تغب حتى الآن ويمكن استغلال ما تبقى منها قبل انقطاع تلك الجسور التي لاتزال قائمة ولم تسقط على رغم ما تعرض له البلد من قصف سياسي. إلا أن استغلال الفرصة يجب أن يوضع في مكانه الصحيح حتى لا تكون مجرد محطة في سياق لا مجال فيه للمصالحة. والمصالحة المفترضة عليها أن تتجاوز تلك الخلافات الوزارية بحثاً عن لقاء يشتمل على معالجة الكثير من العقبات الجوهرية التي تمس وجود لبنان وموقعه ودوره وإمكاناته.

مشكلة لبنان تكمن في انه يشكل صورة مخالفة لمجرى الوقائع العربية. فهو بلد يعتمد الدستور واللعبة البرلمانية ويحترم الحقوق والحريات ويضمن حق التعبير عن الرأي. وأيضاً وهذه مشكلة أخرى يتركب البلد من مجموعات أهلية تملك سلسلة قوانين للأحوال الشخصية تسهل للناس والعباد منافذ للتنفس في إطارات مذهبية وطائفية ضيقة. وبسبب هذه الحال شكل هذا البلد الصورة المخالفة للوقائع العربية وتحول مع الأيام إلى نموذج لا ينسجم في طبيعته وتطبعه مع قياسات ايديولوجية وحزبية بعيدة ومجاورة.

هذه «النعجة السوداء» استفزت دائماً الكثير من القوى وشجعتها على تطويقها وحصارها ومنعها من التكاثر. وبسبب هذا الوضع الخاص شكل هذا البلد مساحة مناسبة للتفريغ الإقليمي والدولي وباتت أرضه الخصبة تولد حاجات تلبي رغبات مختلفة لا تتناسب بالضرورة مع تطلعات أهله. فهذا البلد جمع متناقضات أهلية ( طائفية ومذهبية) إلى متناقضات في نمط حياته وسلوكه، إلى متناقضات الدولة و المقاومة، إلى متناقضات السلم الأهلي والصراع القومي ضد «إسرائيل».

شكلت هذه المتناقضات قنوات تصريف للدول العربية والإسلامية فبات البلد الصغير والجميل يتحمل المسئولية القومية للتحرير وتحول إلى جبهة أمامية تواجه «إسرائيل» نيابة عن الدول العربية ودول «المؤتمر الإسلامي».

في العدوان الأخير على لبنان مثلاً، تحول هذا البلد إلى مشهد تلفزيوني تنقل بطولاته الفضائيات إلى الشارع العربي وباتت صور الدمار والتحطيم مجرد ملاحم تعوض المشاهد تلك الفراغات التي تبحث عن مكان للتنفيس أو قضاء سهرة ممتعة. فالبطولات اللبنانية تحولت إلى ما يشبه مباريات كرة القدم التي كان يتابعها المشاهدون بشغف منقولة مباشرة من ملاعب الاولمبياد في ألمانيا.

في لبنان اختلف المشهد. فالمواجهات لم تكن مجرد صور تنقلها الفضائيات وإنما شكلت حالات دمار وتحطيم وقتل منهجي ومبرمج. لذلك كان وقع العدوان على البلد الصغير والجميل يختلف عن مشاهد البطولات التي تفننت الفضائيات في نقلها مباشرة من المكان. فالمشاهد العربي من خلال المتابعة اليومية كان يعوض ذاك النقص وأخذ يتباهى بقدرة بلد صغير على الصمود في وجه قوة عسكرية صهيونية هزمت الدول العربية. أما اللبناني الذي كان يتلقى الضربات وتسقط على قراه ومدنه أطنان الصواريخ والقنابل الغبية تولدت عنده ردات فعل لا تنسجم بالضرورة مع مشاهد بطولات الصمود والتصدي. فهذه «الشاة السوداء» جددت طرح السؤال: لماذا لبنان هو الضحية؟

أسئلة لبنانية

هذا السؤال ليس مفتعلاً ولم تخترعه مؤامرة خارجية وإنما تولد في ضوء ذاك الفراغ العام الذي اخذ يحط بثقله السياسي على لبنان. فطوال الـ 34 يوماً كانت حكومة ايهود اولمرت تدك القرى المدن والاحياء وتقتل وتجرح وتشرد بينما المحيط كان في حال من الوجوم أو التردد أو السكوت.

شكل الصمت صفعة قوية للداخل اللبناني خصوصاً بعد وقف العدوان وانكشاف الواقع وظهور الخسائر الفادحة المباشرة وغير المباشرة. وازدادت قوة الصفعة حين بدأت ارتدادات الزلزال تنتقل إلى الداخل وتولد موجات سلبية تلونت بخصوصيات المناطق والطوائف والمذاهب.

طرحت أسئلة كثيرة بعد توقف العدوان من نوع إلى متى يستمر هذا الوضع؟ وكيف يمكن منع تكراره؟ وما هي الضمانات المطلوبة لوقف هذا السيناريو الذي يعاد تصويره وإنتاجه وإخراجه كل خمس أو عشر سنوات؟

من حق اللبناني أن يسأل. ومثل هذه الأسئلة مشروعة وليست مخترعة وهي فعلاً تحتاج إلى إجابات خارج الإسقاطات الايديولوجية والحزبية. والأجوبة عادة غير الأسئلة لأنها تحتاج فعلاً إلى شجاعة ورؤية وقدرة موضوعية على الإحاطة بالمشكلة كلها.

المنطق الشكلي يقول إن الكبير يدافع عن الصغير، والصغير يعتمد على الكبير، والكبير على الأكبر. وهكذا وصولاً إلى الحلقة القوية في المعادلة العربية - الإسرائيلية. والمنطق الشكلي يقول أيضاً ان استراتيجية المواجهة أو التصدي أو الصمود أو مقاومة «إسرائيل» تحتاج إلى تعديل. والتعديل يبدأ بتصحيح ذاك «الهرم» المقلوب في معادلة الصراع. المعادلة في وضعها الحالي معكوسة إذ ترتفع قاعدته الكبيرة والأوسع إلى أعلى وتبدأ الطبقات بالتدرج وصولاً إلى الصغيرة وهي تقع في أسفل الهرم. ولبنان كما يظهر للمشاهد ووفق صورة المنطق الشكلي يقع في آخر قاعدة الهرم المقلوب وهذا ما شكل مع مرور الأيام ضغطاً عليه بسبب ثقل المسئوليات الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى حصول التواءات في هيكله العظمي وفقرات السلسلة. والالتواءات في بلد مختلط أهلياً يعني تشكل حالات «لبنانية» متلونة بالطوائف والمذاهب. وهذا ما بدأ يظهر الآن على سطح البلد.

المنطق يقول إن لبنان هو جزء من المعادلة وليس المعادلة كلها. وهو يشكل القاعدة الصغيرة في رأس الهرم وليس في أسفله. وهو أيضاً يمثل حلقة في السلسلة ولكنه ليس الأقوى أو الأكبر ولذلك لابد من تعديل تراتب طبقات الهرم وإعادة النظر في ترتيب حلقات السلسلة. فالحلقة القوية والكبيرة تشد الوسطى والوسطى تشد الصغيرة وليس العكس. وحين تستوي الحلقات وفق تسلسلها يمكن القول إن المعادلة تصبح صحيحة لانها تضبط موازين القوى ضمن سياقات منطقية ومفهومة لكل اللبنانيين. فالمنطق الصحيح يرجح معادلة أن الصغير يعتمد على الكبير والأقوى يدافع عن الأضعف وليس العكس.

المشكلة الآن أن أهل هذا البلد الصغير وصلوا إلى آفاق مسدودة من جديد وبدأت الأبواب المفتوحة تنغلق أمامهم وتقطع عليهم إمكانات التحرك في فضاءات سليمة وصحية. وحين تصل العلاقات الأهلية إلى درجة عالية من الاحتقان لا يستبعد أن تنفجر داخلياً أو تنزلق نحو الأزقة والأحياء في حال فشلت في التوافق على مخرج عام ومشترك.

أخبار لبنان سيئة الآن بعد مضي أكثر من مئة يوم على وقف العدوان. والغريب في التوقعات وربما ليس غريباً أن المشاهد العربي الذي تابع اخبار البطولات من على شاشات التلفزة والفضائيات وتفاخر بصمود البلد الصغير في مواجهة القوة الإقليمية العظمى في المنطقة سيصاب من دون شك بإحباط كبير سيسهم في تعديل الكثير من زوايا الصورة التي تابع لقطاتها يومياً في المقاهي وصالات البيوت سواء في الأحياء الفقيرة أو المنازل الفخمة. فلبنان الآخر لن يكون على مثال ذاك الذي تابع أخباره في شريط تلفزيوني امتد على 34 حلقة متواصلة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1552 - الثلثاء 05 ديسمبر 2006م الموافق 14 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً