العدد 1551 - الإثنين 04 ديسمبر 2006م الموافق 13 ذي القعدة 1427هـ

تفكيك المطابقة بين الطائفة والموقف السياسي

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

قبل أن تقوم دار الكنوز الأدبية بإعادة طباعة كتاب عبدالرحمن الباكر «من البحرين إلى المنفى» في العام 2002، وقبل الاحتفال الذي نظمته الجمعيات السياسية الأربع (العمل الوطني، والوفاق، والمنبر التقدمي، والوسط العربي الإسلامي) في العام 2002 إحياء للذكرى الثامنة والأربعين لتأسيس هيئة الاتحاد الوطني (1954 - 1956)، وقبل أن تقيم ست جمعيات سياسية المهرجان الوطني الكبير في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2004 في مركز البحرين للمعارض بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيس هيئة الاتحاد الوطني... قبل هذا كان قلة من الناس يعرفون من هو عبدالرحمن الباكر، ومعظم هؤلاء كانوا من نخبة المعارضة الوطنية، فيما لم يسمع معظم البحرينيين بتنظيم سياسي وطني معارض اسمه «هيئة الاتحاد الوطني». كما لم يسمع هؤلاء بأن لهذا التنظيم أميناً عاماً اسمه عبدالرحمن الباكر. وأتذكر أن أحد هؤلاء فاجأني في العام 2004 بإصراره على أن عبدالرحمن الباكر كان شيعياً. وأتذكّر كذلك أن شخصاً آخر كان يعتقد أن عبدالرحمن النعيمي وعبدالعزيز أبل وإبراهيم شريف ناشطون سياسيون شيعة، وكان على هذا الشخص أن يبذل جهداً كبيراً في تخريج لقب «النعيمي» من إحالته العائلية إلى إحالته المناطقية وتحديداً ليكون «النعيمي» نسبة إلى منطقة النعيم في المنامة! وبهذا ينسجم تصوّر صاحبنا بأن عبدالرحمن النعيمي شيعي!

والحق أنه من التسرّع أن توصف كل هذه التصورات بالجهل والسطحية والغباء، وليس من العبقرية في شيء أن ترمي كل هذه التصورات والظنون لكونها زائفة وخاطئة. ثم إن هذه ليست حالات فردية عابرة، بل هي ظنون جماعية عامة ومنتشرة بين الناس. ولهذا فالأجدى بدل ذلك أن نبحث عن مصدر هذه التصورات الزائفة، وعن السياقات التاريخية التي تكوّنت فيها هذه الظنون الجماعية الخاطئة.

وأتصور أن منشأ هذه التصورات والظنون يعود إلى استراتيجية عتيدة في التفكير والتصور العربيين، وقد سبق لعبدالله إبراهيم - وهو ناقد عراقي بارز - أن تكرّس في العام 1997 على مشروع ثقافي مهم يقوم على نقد وتفكيك هذه الاستراتيجية التي أطلق عليها مصطلح «ثقافة المطابقة»، وهي استراتيجية متجذرة في الممارسات التأويلية العربية الحديثة، إذ يسعى الفكر العربي الحديث إلى المطابقة مع التراث أو مع الغرب.

وسيكون لهذه الاستراتيجية حكمها على عمليات التصور والتأويل الجماعية في البحرين، بل إني لا أزعم أن تلك الظنون تصدر عن هذه الاستراتيجية المتجذرة في الممارسات التأويلية البحرينية، إلا أن المطابقة التي تفعل فعلها في بناء الظنون الجماعية في البحرين ليست لها شمولية المطابقة التي يتحدث عنها عبدالله إبراهيم (مطابقة الذات مع الآخر الغربي أو مع التراث)، بل إن النسخة المحلية من تلك الاستراتيجية تقوم على المطابقة المزمنة والتلازم الأزلي بين الطائفة (شيعة/ سنة) من جهة، وبين الموقف السياسي (معارضة/ موالاة) من جهة أخرى، إذ يقوم التصور الجماعي العام، الرسمي والشعبي سواء بسواء، على اعتقاد زائف يقول إن كل شيعي معارض بالفعل أو بالقوة، وإن كل سني موالٍ بالفعل أو بالقوة. ولهذا فإذا ما ظهر ناشط سني معارض فإن الظنون الجماعية تذهب، بصورة تلقائية، إلى اعتباره شيعياً؛ لأن الناس هنا لا تتصور أن يظهر سياسي معارض من بين السنة! ولأن السلطة لا تريد أن يظهر هذا النمط من المعارضين، وإذا ما سارت الأمور على غير ما تشتهي وظهر هذا السني المعارض، فينبغي أن يبذل الجهد كله من أجل تغييب هذه الحقيقة وبكل الوسائل. والسبب أن المطلوب هو أن تبقى تلك المطابقة متجذرة إلى أبلغ الحدود بين الشيعة كمعارضة، والسنة كموالاة. وبهذا توافقت - بصورة لاواعية - الرغبة الرسمية مع الظنون الجماعية لدى عامة الناس من أجل إدامة هذه المطابقة بين الطائفة والموقف السياسي.

وتقوم هذه المطابقة على منطق قياسي صوري يتألف من مقدمتين كبرى وصغرى ونتيجة، وذلك على النحو الآتي:

كل معارض شيعي

عبدالرحمن النعيمي معارض

إذاً عبدالرحمن النعيمي شيعي

أو:

كل موالٍ سني

فلان موالٍ

إذاً فلان سني

هذه قضية موجبة كلية بتعبير علماء المنطق، وحالها كحال مثالهم المشهور الذي يقول: «كل إنسان فانٍ - سقراط إنسان - إذاً سقراط فانٍ). إلا أن الفرق بين الحالين هو أن النتيجة في مثال المناطقة نتيجة صادقة، وصدقها مترتب على صدق المقدمتين الكبرى والصغرى، في حين أن النتيجة في مثالنا السابق نتيجة خاطئة، فعبدالرحمن النعيمي ناشطٌ سياسيٌ قوميٌ ويساريٌ من أصل سني لا شيعي، وكذب هذه النتيجة مترتبٌ على زيف المقدمة الكبرى: كل معارض شيعي. ومن المعروف في القياس، الفقهي والمنطقي، أن القائس - من يقوم بالقياس - لا يبتدئ حكماً جديداً، بل هو مجرد ناقل لحكم عام ثابت في الأصل (في القياس الفقهي) أو في المقدمة الكبرى (في القياس المنطقي) إلى شيء آخر هو الفرع أو الجزء. وعلى هذا فإن تقويض الأصل/ المقدمة الكبرى (كل معارض شيعي) سيقود بصورة تلقائية إلى انهيار النتيجة الزائفة (عبدالرحمن النعيمي شيعي)؛ لأن هذه نتيجة قياسية مغلوطة لمقدمة كبرى زائفة!

ومن أجل تقويض هذه المطابقة فإن المرء بحاجة إلى أن يفحص - أولاً - المحددات والسياقات التاريخية التي تكوّنت في ظلها هذه المطابقة العتيدة التي تعبّر عنها المقدمة الكبرى. وعلى هذا الفحص أن يسعى إلى الكشف عن تاريخية هذه المطابقة من خلال تبيان حقيقة أنها مطابقة نشأت ضمن سياقات تاريخية محددة، وأنها ليست مطابقة أزلية، بل ليس لها هذا العمق الزمني الذي تفترضه الظنون الجماعية. والقول بتاريخية هذه المطابقة يعني أنها مطابقةٌ من صنع البشر، وما هو من صنع البشر يكون قابلاً للتغيير والنسيان والزوال. ثم إن القول بتاريخية هذه المطابقة يعني أن هذه المطابقة نتاج ظروفها وسياقاتها التاريخية الحاكمة، وأن تبدّل هذه الظروف والسياقات يهيئ الفرصة لتحولات تجري على هذه المطابقة، أو على أقل تقدير يهيئ الفرصة لحلحلة هذه المطابقة عن مواقعها القديمة.

وهذه مهمة سنحاول القيام بها في الأسابيع المقبلة، وهي تتطلب صبراً من القراء؛ لأن حفرنا في هذه القضية قد يطول لأسابيع، والأهم أن هذه المهمة تتطلب رحابة صدر من مختلف الأطراف السياسية في البلاد؛ لكون الاقتراب من هذه المنطقة الوعرة اقتراباً محفوفاً بمخاطر جمة لا تبددها إلا رحابة الصدر هذه

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1551 - الإثنين 04 ديسمبر 2006م الموافق 13 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً