أيام تفصل الرئيس الأميركي جورج بوش عن تقرير بيكر - هاملتون المتوقع صدوره بعد لقاءات وسجالات ودراسات بشأن الاستراتيجية المتبعة في العراق. فالتقرير يجمع بين رأي الحزب الجمهوري ووجهة نظر الحزب الديمقراطي، وبالتالي فإنه يشكل نقطة توازن بين الطرفين ويعطي فكرة موجزة عن توجه الحزب المنافس في السنتين المقبلتين حين يتسلم مهمات إدارة الكونغرس في الشهر المقبل.
التقرير ليس إلزامياً، ولكنه يشكل نقطة عبور للرئيس الأميركي في حال قرر إعادة النظر في سياسته المرتبكة في العراق. السياسة المرتبكة تلك عبر عنها وزير الدفاع المستقيل دونالد رامسفيلد في رسالة بعثها إلى «البيت الأبيض» قبل أيام من استقالته وقبولها رسمياً بعد هزيمة «الجمهوري» في الانتخابات النيابية النصفية.
رسالة رامسفيلد غريبة من نوعها وخصوصاً أنها تصدر عن وزير يعتبر رأس أفعى تيار «المحافظين الجدد» وأخطر تمساح عرفته وزارة الدفاع في تاريخها المعاصر. فهذا الوزير يعترف بأن الاستراتيجية الأميركية فشلت في العراق ويقترح وضع جدول زمني للانسحاب وتسليم مسئوليات الأمن للجيش العراقي بعد الانتهاء من تدريب عناصره.
رامسفيلد في رسالة «الاستقالة» لا يذكر الأسباب التي أدت إلى هذا الفشل ولا يعترف بمسئوليته عنها. كذلك لا يشير إلى الكارثة التي أوقعها الغزو الأميركي ببلاد الرافدين والأساليب التي اتبعت لنشر الفوضى وتقويض الدولة وزعزعة الاستقرار ودفع شبكة العلاقات الأهلية إلى اقتتال يومي يذهب ضحيته المئات أسبوعياً.
الكلام عن الفشل لا يشير إلى الأسباب وإنما يكتفي بالتحدث عن النتائج. وهذا النوع من الكلام المناور يؤكد من جديد أن الولايات المتحدة ليست في وارد إعادة النظر في استراتيجيتها الشاملة في المنطقة وإنما تتجه إلى معالجة زاوية وترك الأمور تسير وفق تصورات ليست بعيدة عن تلك الفوضى المفتعلة في بلاد الرافدين.
«الفوضى المفتعلة» ليست تهمة مختلقة، إذ يمكن ملاحظتها من مراقبة الأوضاع العامة في المنطقة والدول المجاورة للعراق. وهذا الأمر أشار إليه بأسلوب ملتوٍ الرئيس جلال طالباني العائد حديثاً من زيارة ناجحة لطهران. فالرئيس طالباني علق على الاتفاق السياسي/ الأمني الذي جرى مبدئياً بين رئيس الوزراء نوري المالكي وبوش خلال زيارة الأخير للأردن. فالاتفاق نص على إعطاء صلاحيات للقوات العراقية بممارسة مهماتها الأمنية في البلاد. وتعليق طالباني عليه يثير ذاك السؤال عن خطط واشنطن على نشر الفوضى في بلاد الرافدين والمنطقة. طالباني قال إن القوات المسلحة تملك القدرات والعدة والعتاد على ضبط الوضع الأمني، ولكن إدارة جيش الاحتلال كانت تمنع الأجهزة العراقية من ممارسة دورها وكانت تضع الشروط على تحركاتها وتحدد مناطق عملياتها.
كلام طالباني خطير إذا كان ما يقوله هو الصحيح. فالرئيس العراقي تحدث عن سياسة أميركية مقصودة قضت بتكبيل حرية حركة القوات المسلحة، إذ كانت إدارة الاحتلال ترفض تحريك فوج من الجيش من دون استشارة وتحديد المهمات في غرفة العمليات. ولهذا رحب طالباني باتفاق بوش - المالكي على إطلاق حرية الجيش العراقي في التحرك وممارسة مهماته واعداً الناس بأن الأمور الأمنية ستختلف بدءاً من الآن.
السؤال الذي لم يجب عنه طالباني عند حديثه عن أسلوب تعاطي الاحتلال مع موقع الجيش ودوره في ضبط الأمن واحتواء الفوضى ومنع انتشار الاقتتال الأهلي والفرز الطائفي/ المذهبي للمناطق والمدن والأحياء هو: «لماذا اتبعت إدارة الاحتلال مثل هذا الأسلوب وهي على علم ودراية بالفوضى العارمة التي ضربت بلاد الرافدين؟».
من الصعب تقديم رد نهائي ومقنع، ولكن مسألة «الفوضى المفتعلة» قد تكون من الأجوبة المعقولة للإجابة عن السؤال. فهل تعمدت إدارة الاحتلال اتباع سياسة «الفوضى» التي أطلقت عليها «بناءة» كأسلوب في التعامل مع الشأن العراقي بعد الغزو؟ وهل خططت الولايات المتحدة لمثل هذه السياسة العشوائية التي بدأت بتحطيم البنى التحتية وتقويض الدولة وتسريح الجيش وإعلان خطة الاجتثاث بغية افتعال فوضى أمنية تؤدي إلى تصادمات أهلية ينجم عنها ذاك التقسيم المناطقي (الطائفي/ المذهبي) للعراق تمهيداً لإعلان دويلات ترعى شئونها دولة فيدرالية ضعيفة ومشلولة كما هو حاصل الآن في لبنان؟
الأجوبة كلها تدخل في سياق التحليل التآمري في اعتبار أن الاحتلال الأميركي ينفي مثل هذه الخطة ويميل إلى اعتماد فكرة الفشل. فالاعتراف بالفشل يبدو أنه الجواب المفضل للإدارة الأميركية. والفشل أفضل من القول إن تلك السياسة كانت مدروسة ومخططة سلفاً. وهذه النتيجة التي شرح بعض جوانبها السرية طالباني خلال تعليقه على اتفاق بوش - المالكي في الأردن تشير إلى وجود نوع من السياسة التي تعتمد استراتيجية التقويض من خلال اعتماد تكتيك «الفوضى البناءة».
تقرير بيكر - هاملتون
في العودة إلى تقرير بيكر - هاملتون الذي يتوقع صدوره قريباً يمكن تجديد طرح السؤال: هل كانت الفوضى مفتعلة، وقصد منها إثارة الفتن الأهلية وتقويض دول المنطقة وعزلها عن بعضها وتأسيس هواجس أمنية تزعزع المنظومة الدفاعية لدول الجامعة العربية؟
المؤشرات العامة تدفع باتجاه هذه الفرضية التآمرية. فالفشل الأميركي في العراق الذي ورد في استقالة رامسفيلد وتوضيحات طالباني لخفايا اتفاق بوش - المالكي معطوفاً على تقرير بيكر - هاملتون يؤكد وجود استراتيجية تقويض للمنطقة في حال استمر الاحتلال أو انسحب من العراق. فالمهم في النهاية النتائج السياسية المترتبة عن الاحتلال أو الانسحاب. ووفق تلك القراءة المفترض أن تظهر قريباً في واشنطن يمكن التكهن بوجود خطة تقسيم أمنية لدول المنطقة وفرزها إلى جبهتين متنافرتين في حال قرر «البيت الأبيض» الانسحاب من العراق وتسليم الجيش العراقي مسئولية ضبط الأوضاع.
إذا حصل الانسحاب الذي حذر من تبعاته الرئيس المصري وأمير الكويت فمعنى ذلك أن دول المنطقة ستتورط في مشكلات أمنية بعد الانسحاب كما تورطت في المشكلات نفسها خلال الاحتلال وبعده. وربما تكون هذه النتيجة السلبية هي الفكرة التي قصدها بوش حين كرر في تصريحات كثيرة أن خطة الاحتلال لم تكن فاشلة بالكامل. فالاحتلال مثلاً قوض دولة العراق وأنهك البلاد بالعنف الطائفي/ المذهبي، كذلك زعزع الاستقرار في المنطقة وأثار هواجس وقلاقل كانت كافية لتخريب منظومة الدفاع العربية. ومجموع هذه النتائج السلبية يشكل سلسلة نقاط إيجابية لمصلحة تعزيز أمن «إسرائيل» وضبط حدودها وتوفير الحماية لمنابع النفط وحقوله. إضافة إلى هذه النتائج الميدانية أسس الاحتلال حاجات أمنية لدوره في المنطقة من خلال زرع بذور الانشقاق في المنظومة الأمنية وتفكيك تلك التكتلات العربية التي كانت تقوم على فكرة الخوف من «إسرائيل» والتوافق على مكافحة مخاطرها على المنطقة.
الآن كما يبدو باتت واشنطن على قناعة بوجود مخاوف مضادة أو مختلفة عن تلك التي كانت موجودة في المنطقة قبل غزو العراق في 2003. وهذا بحد ذاته يعتبر من المكاسب التي سجلتها الولايات المتحدة خلال فترة وجود احتلالها المباشر. فالآن أصبحت العلاقات الإقليمية في حال انشطار بسبب اختلاف الهواجس الأمنية. وهذا الانشطار الإقليمي تأسس بفعل تلك الفوضى الهدامة التي افتعلتها واشنطن منذ الاحتلال. فهذه الفوضى رفعت نسبة المخاوف وأعطت الولايات المتحدة فرصة لإعادة توظيف «الفشل المفتعل»، في سياسة جديدة ربما تقوم على فكرة القبول بالانسحاب التدريجي وعلى مراحل بدءاً من نهاية العام 2007 أو إعادة نشر القوات في قواعد عسكرية ومهابط طيران أو دفع المنطقة نحو مزيد من الفوضى والاستقطابات الأهلية والإقليمية بقصد زعزعة الاستقرار لضمان أمن «إسرائيل».
أيام تفصل بين الرئيس بوش وتقرير بيكر - هاملتون. وهذه الأيام ليست كافية لاتخاذ قرارات دراماتيكية بشأن العراق، ولكنها تعتبر فرصة لإعادة قراءة الاستراتيجية الأميركية والقصد من سياسة التقويض ونشر الفوضى وزعزعة الاستقرار الأمني والأهلي والإقليمي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1551 - الإثنين 04 ديسمبر 2006م الموافق 13 ذي القعدة 1427هـ