هل توجد حاجة للتجديد في آليات الاجتهاد؟، سؤال يشغل بال الكثيرين، ولكني أعتقد أن الجواب يجب أن يكون بديهيا، وذلك لأن كل المنظومات الفكرية مهما كان مصدرها هي في معرض التفاعل، بمعنى التأثير والتأثر المتبادل مع المنظومات الأخرى بحيث قد تؤول الصيرورة الفعلية لتلك المنظومة الى نتيجة مختلفة أشد الإختلاف مع سيرورتها الأولى، فهذه – في نظري- حتمية تاريخية تنتهي اليها كل التأسيسات الفكرية والأخلاقية على حد سواء.
وقد تميز الإسلام عن سائر الأديان التي سبقته باتفاق المسلمين على انحفاظ النص الأول الذي هو القرآن الكريم وكونه بمناى عن التحريف والتبديل، وهذا الإجماع لا يتوافر لدى الأديان السابقة ولكن هذه الحقيقة المتفق عليها إنما تضمن خصوص المداليل المفادة بظاهر القرآن، ولا تتسع لمضامين الحديث، والتي وقع فيها التلاعب الكثير من قبل القوى السياسية والمذهبية، ولا تزال محل اختلاف شديد في النقل والفهم معا. بل إن فهم واستنباط ظواهر القرآن أيضا ليس بمعزل عن التأثر بالعوامل التاريخية والتأطيرات المذهبية، فلو لاحظنا مثلا تفسيري الزمخشري والرازي واللذين ينتميان الى مدرستين مختلفتين لوجدنا ان كل واحد منهما يفسر الآيات بما ينسجم مع مذهبه الكلامي، وكل واحد منهما لديه قدرة فائقة على تلفيق الأدلة العقلية وتشكيل القياسات المنطقية التي تأخذ بلب الناظر اليها من داخلها، ولكنها قد لا تساوي شيئا لدى من يجعل بينه وبينها مساحة معقولة وينظر اليها من خارجها!
و تكشف هذه القدرة الفائقة على تلوين الاستدلال عن إمكان التوصل دائما الى آليات مبتكرة في الاستنباط، خصوصا مع وضوح ان الاجتهاد يرتكز على مقدمات اكتسابية لها قابلية التطوير كعلوم اللغة وأصول الفقه، ويكفي لإدراك ذلك أن نلقي نظرة فاحصة على مراحل تطور علم الأصول، وخصوصا لدى الشيعة الذين تمتعوا بقدر معقول من فتح باب الاجتهاد على مدى عقود مديدة فمن ابن الجنيد الى الشيخ الطوسي و العلامة الحلي و الشهيدين وصولا الى المقدس الأردبيلي وصاحب المدارك وانتهاء بالشيخ الأنصاري والنجفي صاحب الجواهر وكانت الخاتمة بالشهيد محمد باقر الصدر الذي كان بحق علامة مضيئة على جبين الفكر الشيعي المعاصر (وقد طرح نظريات جديرة بالاعتناء في أبحاثه الأصولية وفي كتابيه اقتصادنا والأسس المنطقية للاستقراء) وقد ألمحت الى بعض تجديداته الكبروية في بعض مقالاتي السابقة، وقد أخصص لها عددا من المقالات لاحقا.
هل يعقل ألا يؤثر تطور علم الأصول على آليات الاستنباط؟
وهل يعقل ألا يؤدي تطور آليات الاستنباط الى تطور النتائج الفقهية؟، وأخيرا إذا كان تطور الفهم ضرورة تاريخية زمنية فهل يعقل أن يقف الآن دولاب الزمن؟ و أشرت في المقال السابق الى ندوة أقامها المعــــــهد الأمريـــــكي للسلام في واشنطن (United States Institute of Peace) وهي خلاصة لورشة عمل نظمها المعهد بالتعاون مع مركز دراسة الإسلام والديمقراطية وقد شارك في الندوة عضو مجلس الفقه في أميركا مزمل صديقي اذ دعى في مشاركته الى إحياء طريقة تأمل المبادئ والمقاصد العامة للشريعة وهو ما يعرف بالاستحسان أو الاستصلاح أي الأخذ في الاعتبار مصلحة الجماعة، وقد أشار الى بعض المعوقات أمام عملية الاجتهاد المنتج فمن ذلك ان الفقهاء لا يستخدمون في تفسيراتهم للنصوص الوسائل التي توفرها لهم علوم اللغويات والدلالات (علوم الألسنيات الحديثة) بل إن الكثير منهم ليس مقتنعا بعد بأن انجازات الحضارة الحديثة في مجالات العلوم الإنسانية لا تقل أهمية عن انجازاتها التقنية حتى إن الكثير من الأنظمة التعليمية الفقهية باتت غير قادرة على تهيئة المجتهد لفهم الزمان والمكان، وأشار كذلك الى ان المجتمعات الإسلامية عموما و الشخصيات المفكرة خصوصا تفتقر الى أجواء الحرية اللازمة لاستنباط المعلومات من مواردها ومناقشة القضايا بحرية نظرا للقيود التي تفرضها عليها السلطات السياسية والمؤسسات الدينية، وقد طرح مزمل صديقي أفكارا مهمة تتلخص في ما يلي:
1 - لا يكون اجتهاد حقيقي ما لم يكن للعلماء الحرية في التعبير عن آراءهم فحرية التعبير ملازمة لمفهوم وممارسة الاجتهاد، فما لم نكرس ثقافة حرية التعبير فلا مجال لتوقع انطلاقة حقيقية للاجتهاد.
2 - إعادة النظر في مناهج المدارس والمعاهد الدينية بحيث يفسح المجال لانفتاح الطلبة على جميع المدارس والمذاهب وليتمكنوا من الاطلاع على الأدلة التي استخدمت فيها، فمن الضروري جدا تطوير مناهج البحث المقارن في الأديان والفلسفة والتاريخ.
3 - تحويل الاجتهاد الى جهد جماعي وتطوير مجالس الفقه، ولا ينبغي أن تقتصر العضوية على الدارسين للشريعة، بل يجب أن تشمل المتخصصين في كل المرافق المرتبطة بمعرفة الأحكام وتشخيص الأحكام التي تبتني عليها، وتوجد نقطة مهمة جدا محصلها أن عمل المجالس لا يجب أن يقتصر على إصدار الفتاوى، بل ينبغي أن يتجاوز ذلك الى إعطاء الأدلة والمنهجيات لتحقق قدرا معقولا من الوعي العام بتلك المنهجيات، بدل أن يكون دور الرأي العام هو التلقي المفرط والتبعية العمياء.
وكذلك شارك الأستاذ إمام حسن قزويني في هذه الورشة، وهو المدير الفعلي للمركز الإسلامي الأمريكي، وملخص كلامه هو ان من أفدح الأخطاء التي ارتكبها المسلمون هي إغلاق باب الإجتهاد، وعندي أن ذلك يعود الى دوافع سياسية إذ أن العباسيين ( 750- 1258) قرروا حظر كل المذاهب الأخرى ليحكموا سيطرتهم على الدين وسائر الأمور السياسية وإن الحكومات في البلاد الإسلامية تجني أكبر فائدة من غياب الاجتهاد الحقيقي وتسعى الى رهن إرادة المؤسسات الدينية بسياساتها، فالخطوة الأولى نحو فتح باب الاجتهاد هي تحرير المؤسسات الدينية من سلطة الأنظمة السياسية كي تتمكن من إصدار تفسيراتها للدين بصورة مستقلة، فمسؤولية السلطة تجاه الفكر بشكل عام والديني منه بشكل خاص هي توفير الدعم والحماية فحسب وليس توجيه الفكر أو الهيمنة عليه، ومن هنا ننفتح على إشكالية كبرى فيما يرجع الى قضية تعديل المناهج الدراسية فهل ستعود الدول الإسلامية وتكرر ذات الخطأ التاريخي الذي تمثل في فرض مناهج فكرية محددة بقوة السلطان؟ أم إنها سوف تستفيد من الدرس وتبحث عن منهج أكثر اتساعا ليس المقصود به الجمع بين المتناقضات بل الإقتصار على الأفكار الدينية العامة التي لا تمثل مذهبا معينا، وقد عرضت – كاتب المقال- هذا الرأي أمام لجنة تعديل المناهج بوزارة الشؤون الإسلامية في مملكة البحرين وقلت ينبغي أن يكتفى بالطرح الديني العام وتترك التفاصيل المذهبية للمؤسسات الأهلية وذلك لأنها الأقدر على التعبير عن توجهاتها الحقيقية. وأما السيدة انجريد ماتسون (استاذ الشريعة الإسلامية في كلية هارتفورد، وهي مسلمة) فكان لها رأي متميز محصله ان الاجتهاد ليس شكلا من أشكال التفكير التشريعي فحسب بل هو أيضا تفكير إبداعي خلاق، والحضارة الإسلامية كأي حضارة أخرى لم تبن على أساس قانوني محض يعبر عن الحلال والحرام و يصاغ في غرف مغلقة بل كانت أيضا بناء على روح المبادرة والخيال والإبداع فيجب أن تكون دائما لدينا رؤية لغد مختلف على أساسه نصل الى إبداعات في التخطيط والاجتهاد، والدليل على غياب هذه الروح الإبداعية هو الصعوبة التي وجدها علماء المسلمين في القرن التاسع عشر في إدانة الرق والدعوة الى إلغاءه حتى ألغته المدنية الوافدة ولم يستطيعوا تخيل عالم بلا رق واكتفوا بالقول بأن التشريعات التي تنظم الرق أتاحت حسن معاملة العبيد، ونلاحظ إن الكثير من الاستنباطات تكتفي بترقيع الوضع الموجود ولا تملك بعدا إبداعيا لتغيير الوضع القائم، ولأننا لا نشعر بالحاجة الى تغيير الوضع الموجود فلا نكتشف في النص ما يلبي تلك الحاجات فكما قيل «الحاجة أم الاختراع» ولأننا لا نسير في فهم الدين ابتداء من فهم الإنسان فلا ننطلق فيه بنفسية البحث عن حاجة الإنسان واقتضاء الواقع بل معزولا عنها وغير مكترث بها بل مكابر عليها في بعض الأحوال وقد يعكس ذلك تأثرا بمبادئ المنطق الأرسطي الصوري الذي يعتني بتشكيل الأقيسة كبرويا على حساب دراسة الصغريات واستقراء النتائج على الأرض، ولذا نلاحظ غلبة البحث الكلامي الكبروي المشتغل بإثبات الحقائق الدينية على البحث في النتائج الميدانية لها مع إن قياس صحة الفكرة لا يجب أن يكون مفصولا عن استتباعاتها على الإنسان وواقعه إذ إن تحسين الوضع الإنساني هو الهدف النهائي للحقائق الدينية ورسالات الأنبياء «ليبلوكم أيكم أحسن عملا» وقد قال النبي (ص) في حديث مشهور«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» فكل أنماط التدين يجب أن تخضع لمقياس مدى تأثيرها على الوضع الأخلاقي التربوي للفرد والمجتمع، وعندما نفهم الدين مفصولا عن واقع الإنسان فالنتيجة هي لوي عنقه لينسجم قهرا مع ذلك الفهم و حينئذ يفقد الدين خصوصية كونه دين الفطرة الإنسانية
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1547 - الخميس 30 نوفمبر 2006م الموافق 09 ذي القعدة 1427هـ