تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تحدياً لا يمكن تجاهله واستحقاقاً لا يمكن تأجيله إلى ما لا نهاية، ألا وهو تحدي الإصلاح الشامل واستحقاق التغيير العميق في مختلف جوانب الدولة والمجتمع.
لم يعد الإصلاح الشامل اليوم ترفاً ولا خياراً بين مجموعة من خيارات يمكن تبنيه أو تركه بل أصبح ضرورة ملحّة، إذا ما أرادت دول المجلس، أن تحافظ على رفاهيتها وتعزز مكانتها في عالم تنافسي لا يرحم، وأن تعزز الأنظمة الحاكمة من شرعيتها.
وسنعرض للعوامل الداخلية الموجبة للإصلاح ثم نتطرق إلى البيئة الدولية الجديدة الضاغطة من اجل الإصلاح، وهي الوجه الآخر لما يعرف بالحرب العالمية ضد الإرهاب.
الإصلاح بديل عن العنف
شهدت بلدان الخليج العربي في مرحلة الاضطراب السياسي الذي عاشته المنطقة العربية، منذ الستينات حتى الثمانينات محاولات لتغيير الأنظمة أو إدخال تغييرات جذرية عليها، وقد اتخذت هذه المحاولات أشكالاً متعددة تبعاً لظروف كل بلد وطبيعة قوى التغيير، وتصادم النظام السياسي مع التغيير. وتنوعت أشكال محاولات التغيير من تحرك جماهيري، إلى انتفاضة شعبية أو حتى عصيان مسلّح.
يمكن القول إن الصراع بين الأنظمة السياسية ومعارضيها وفي أشد المواجهات لم يصل إلى ما وصلت إليه الأمور في الدول العربية الأخرى، نلاحظ أن المواجهة تتبعها عادة انفراجة وعفو عام، واحتواء المعارضين مرة أخرى بل ودخول بعضهم في دائرة السلطة، لكنه وفي ضوء التجربة المرّة للصراعات العنيفة وفي ضوء الحصاد المر للانقلابات والثورات في البلدان العربية الأخرى، فإن قوى التغيير في منطقة الخليج أضحت مقتنعة بأن الإصلاح هو البديل للثورة والانقلاب. وتستثنى من ذلك طبعاً قوى التطرف الديني، التي تنشط في المنطقة منذ سقوط نظام طالبان في أفغانستان.
وفي الحقيقة فإن مواجهة قوى التطرف الديني وهزيمتها لا يمكن أن تتحققا بإجراءات امنية فقط، بل تتطلبان تعزيز قوى الاعتدال في المجتمع وإصلاح النظام السياسي التعليمي والمؤسسة الدينية، التي أسهمت في انبثاق التيار المتشدد.
بالمقابل، فإن النخب الحاكمة تقر ولو نظرياً بضرورة التغيير، وضرورة الحوار مع نخب المجتمع، وضرورة وجود دور لهذه النخب في إدارة شئون البلاد. فإلى أي مدى يوجد توافق على خيار الإصلاح؟ وإلى أي مدى سيذهب هذا الإصلاح؟ وما هي القوى الكفيلة بإحداث الإصلاح وصيانته؟
التحديث وأنظمة التوريث
باستثناء المملكة العربية السعودية، التي أقيم فيها حكم آل سعود، من خلال صيرورة صراعات داخلية، انتهت بتغلب الملك عبدالعزيز بن سعود على خصومه، وإخضاع مختلف مناطق المملكة لحكمه، فإن باقي الأسر الحاكمة في الخليج أمنت استمرار حكمها وتعزيز شرعيها بالانتقال السلس من الحماية البريطانية إلى الاستقلال ضمن خطة بريطانيا بالانسحاب من شرق السويس. وقد عملت كل من دولة الكويت ودولة البحرين، بتعزيز شرعية الحكم من خلال إصدار الدستور ومن خلال مجلس منتخب يتمثل فيه المواطنون ويشاركون من خلاله جزئياً في السلطة.
لقد تهيأت لدول المجلس ثروة استثنائية هي ثروة النفط التي شكلت المحرك لديناميكية التحديث الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي في ظل حضور غربي قوي يتمثل في شركات النفط، وتبعتها مختلف المؤسسات الرأسمالية الحديثة، وكذلك المستشارون، والخبراء، والخبرات والمهارات التي جذبها النفط والاقتصاد السريع النمو، كل ذلك في ظل المظلة الأمنية التي وفرتها الولايات المتحدة التي خلفت بريطانيا في حماية الخليج.
لقد قطعت دول الخليج أشواطاً واسعة في التحديث الاقتصادي والاجتماعي وأضحت اقتصاداتها أقوى الاقتصادات العربية، إذ تمثل السعودية المركز الأول وتحتل الإمارات المركز الثاني، في حجم الاقتصادات العربية، على رغم قلة السكان مقارنة بدول عربية أخرى، ولاشك أن دول المجلس تمتلك اليوم أفضل بنى تحتية وجامعات حديثة ومؤسسات اقتصادية ومالية قوية كما أن مستوى المعيشة لدول المجلس هو الأعلى وكذلك معدل دخل الفرد. لكن ذلك لا يتناسب تماماً مع البنية السياسية للدولة، ولا البنى الذاتية للمجتمع المدني، ولا حق المواطنين في الانتظام في تشكيلات سياسية ونقابية ومهنية، ولا في المؤسسات الدستورية التي يشارك الشعب من خلالها في السلطة والرقابة على الثروات الوطنية ووضع السياسات وتنفيذها.
المختلف والمشترك في الأنظمة السياسية
تشترك الأنظمة السياسية لدول مجلس التعاون الخليجي في الجهة التي تحكم وفي طريقة تداول الحكم كونها تحكم من قبل أسر حاكمة يتم توارث الحكم فيها. أما ما يخص بنية النظام السياسي، والهامش المتاح لمشاركة الشعب في السلطة، والنظام الدستوري، وما هو مسموح به للمجتمع المدني من تنظيم وتعبير ومشاركة في الحياة العامة، فإنه يتفاوت من نظام إلى آخر.
كما أن التطور الاجتماعي واضح في نمط الحياة العصرية وتأهل أبناء المنطقة لممارسة مهن تخصصية عالية مثل الطب والهندسة والطيران والمحاماة وغيرها، ومشاركة المرأة في العمل، وإن كان ذلك دون الطموح، وتشكل طبقة وسطى واسعة.
وبالنسبة إلى الوعي السياسي فإن أبناء الخليج العربي، يتمتعون بوعي مرتفع نسبياً في ضوء التدفق الميسر للمعلومات عبر الانترنت، وسهولة السفر والاتصال، وانتشار الجامعات، ومراكز البحوث، ووسائط الإعلام المتطورة وتواتر المؤتمرات والندوات، في ظل انفراج نسبي لحرية التعبير والاتصال، لكن المفارقة هي أن البينة السياسية حتى في أكثر هذه البلدان تقدماً متخلفة جداّ عن المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي الذي وصل إليه المجتمع. ويمكننا باختصار عرض أبرز ملامح القصور في الأنظمة السياسية والتنظيم السياسي للمجتمع كما يأتي:
-1 تتوافر لأربع دول هي: الكويت وهي أقدمها، والبحرين والإمارات وقطر دساتير متشابهة إلى حد ما، فيما تقتصر السعودية على النظام الأساسي، وعمان على نظام الدولة، وهما أقل مرتبة من الدستور. وعلى رغم ما تبدو عليه الدساتير والأنظمة من صياغات جذابة، فإنها في الواقع تكرس سلطات استثنائية لرأس الدولة، على حساب باقي السلطات، وخصوصاً السلطة التشريعية، سواء أتت بالانتخابات أو الانتخابات الجزئية أو التعيين، ويترتب على سلطات رأس الدولة شبه المطلقة تكرس امتيازات وهيمنة للأسر الحاكمة، ما يجعل من المستحيل محاسبة أو مراقبة الحكم والسلطة التنفيذية. كما يجري تعليق الدستور أو مواد منه من حين إلى آخر.
-2 السلطة التشريعية في بلدان دول المجلس هي إما منتخبة كما في الكويت والبحرين جزئيا، ويشارك النواب المنتخبين أعضاء معينون (وزراء في مجلس الأمة الكويتي أو مجلس شورى معين كما في حال البحرين)، وهي لا ترقى إلى أن تشكل سلطة تشريعية ورقابية حقيقية. وفي عمان، فإن مجلس الشورى ينبثق بالانتخابات المحدودة، أما في الإمارات (المجلس الوطني) والسعودية (مجلس الشورى) فإن الأعضاء معينون من قبل الحاكم، وهذه مجالس استشارية بحتة. ونحن بانتظار تجربة المجلس الوطني في قطر التي تشابه الصيغة الكويتية.
-3 باستثناء البحرين حيث سمح أخيراً للتنظيمات السياسية بالعمل الشرعي بموجب قانون التنظيمات السياسية، فإن باقي دول المجلس محرم فيها وجود تنظيمات سياسية بشكل مطلق، فيما تتعايش سلطة الكويت مع العمل السياسي المستتر، والحقيقة أن الأحزاب تعتبر بمثابة «تابو» لدى الأنظمة الخليجية.
-4 تنظيم المجتمع المدني: تتفاوت الأنظمة الخليجية في تقبلها لما يعرف تقليدياً بالجمعيات الأهلية والنقابات والاتحادات وما أضحى يعرف عالمياً بمنظمات المجتمع المدني والتي تشمل الأحزاب أيضاً. ففي حين تزدهر هذه المنظمات في الكويت والبحرين حيث لها جذورها التاريخية، فإنها مقيدة كثيراً في الإمارات وعمان وقطر، وشبه محرّمة في السعودية. وبالنسبة إلى الاتحادات العمالية فإنها قائمة في البحرين والكويت تاريخياً، لكنها غائبة تماماً في باقي دول المجلس وقد سمحت عمان أخيرا بقيام نقابات عمالية.
-5 الحريات العامة والحقوق المدنية والسياسية: تتفاوت ممارسة الحريات العامة والحقوق المدنية والسياسية، وتشريعاتها من بلد خليجي إلى آخر، لكن يمكن القول إن هناك هامشاً معقولاً في البحرين والكويت، وتضيق بدرجات متفاوتة في باقي دول المجلس.
-6 المشاركة الأهلية ـ بنية مجلس التعاون: يفتقر مجلس التعاون الخليجي، إلى المشاركة والمراقبة من قبل مواطني دول المجلس، فالصيغة القائمة حالياً هي مجلس استشاري غير دائم يجتمع في فترات متباعدة، لينظر فيما يحال اليه من الأمانة العامة للمجلس، وأعضاؤه معينون من الحكومات. ولذلك لا عجب أن يواجه مجلس التعاون باللامبالاة من قبل المواطنين الخليجيين.
-7 الإصلاح الموعود: يعتبر توحيد دولتي اليمن بنظاميها المتنافرين الاشتراكي في الجنوب والرأسمالي الليبرالي في الشمال في 25 مايو/ أيار 1995 تحولا مهما في مسار الصراع في الجزيرة العربية، إذ استبعد كلا النظامين اسقاط الآخر، وليس فقط التعايش بل الاندماج في دولة واحدة، وهذا بدوره اثر على تفكير قوى المعارضة في دول الخليج الأخرى التي كانت تراهن على انتصار المشروع الثوري لليمن الديمقراطي كرافعة له في مشروعه الثوري. وجاء الاحتلال العراقي للكويت في أغسطس/ آب 1990 ليشكل انعطافة مهمة في تفكير قوى المعارضة الراديكالية في دول الخليج الست، إلى حد دفعت الأزمة دول مجلس التعاون لاسترضاء الرأي العام المحلي ورص الصفوف في مواجهة خطر محدق وتوترات اثارها الوجود الأميركي الكثيف على أراضيها. لذلك اطلقت وعودا غامضة بالالتفاف على المطالب الإصلاحية بعد انتهاء الأزمة.
وبالنسبة إلى الكويت التي ألغي وجودها كدولة، ووجدت كل من الأسرة الحاكمة والمعارضة، بل وما يزيد على نصف مواطنيهما أنفسهم في المنفى، فقد ضغطت المعارضة والقيادات السياسية والاقتصادية على أسرة الصباح لتأكيد العقد المبرم بين الطرفين وهو الحكم في آل الصباح واحترام مصالح وإرادة الشعب الكويتي. ولذلك فقد تقرر في أكتوبر/ تشرين الأول 1990 (في مؤتمر الطائف المشهور) تعهد الحكم بإجراء انتخابات لمجلس الأمة المعطل منذ 1986، وتفعيل الدستور، وغيرهما من المطالب الإصلاحية العالقة. وفعلاً أجريت الانتخابات في يونيو/حزيران 1992 بعد عام تقريباً من العودة إلى الكويت، ولكن جرى الالتفاف على المطالب الأخرى و «عادت حليمة لعادتها القديمة».
وبالنسبة إلى باقي دول مجلس فقد شهدت إرهاصات متباينة نتيجة تفاعلات الحادث الكويتي وكذلك بفعل الآمال التي بعثتها تصريحات كبار القادة الغربيين مثل الرئيس بوش الأب والرئيس الفرنسي ميتران ومفادها أنه بعد الانتهاء من تحرير الكويت، سيتم الالتفات إلى الأوضاع غير الديمقراطية السائدة في بلدان الخليج، بل وصل الأمر بالرئيس بوش الأب للتبشير بنظام عالمي جديد ما بعد تحرير الكويت، وذلك في سعيه إلى إقامة تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة لإخراج العراق من الكويت، وضمان تدفق النفط. من بين هذه الإرهاصات ما يأتي:
-1 المصالحة في 1994 بين النظام السعودي والحركة الإصلاحية في الجزيرة العربية بقيادة الشيخ حسن الصفار، وهي حركة إسلامية شيعية كانت قبل ذلك تدعى الحركة الإسلامية لتحرير الجزيرة العربية، وكانت تستهدف سابقا تغيير النظام الملكي السعودي إلى نظام إسلامي على غرار جمهورية إيران الإسلامية.
-2 انطلاق عريضة نخبوية في قطر العام 1991 تطالب بإصدار دستور جديد للبلاد يقوم على دعائم ديمقراطية والمشاركة الشعبية من خلال الانتخابات. وقد اجهض التحرك بسرعة من خلال اعتقال قادته فترة ثم إطلاق سراحهم.
-3 انطلاق العريضة النخبوية في البحرين والتي ضمت لأول مرة تحالفا واسعا بين الشيعة والسنة والإسلاميين والتقدميين واليساريين، وقدمت إلى حاكم البلاد في أكتوبر/ تشرين الأول 1992 تطالب بعودة العمل بدستور العام 1973، وانهاء الاحكام العرفية، وعودة المنفيين وإطلاق سراح المعتقلين وإجراء انتخابات عامة في البلاد. لم يستجب الحكم لهذه المطالب وانشأ مجلس الشورى المعين بديلاً لذلك. لكن المحاولة تكررت بدرجة أقوى في أواخر 1994 بطرح المطالب ذاتها، ولكن من خلال حركة جماهيرية وتوقيع ما يقارب 70 ألف مواطن ومواطنة. وامام عدم استجابة الحكم لذلك، ومبادرته الى شن حملة اعتقالات لقيادات التحرك انطلقت مما يعرف بالحركة الدستورية، واستمرت الحركة الدستورية المعارضة طوال التسعينات حتى وصول الحاكم الشاب الجديد الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في 6/3/ 1999 بعد وفاه والده.
وقد رافقت الحركة الدستورية عمليات قمع واسعة ترتب عليها استشهاد العشرات في المواجهات الدامية مع قوى الأمن أو الموت تحت التعذيب، واعتقال وسجن الآلاف من المعارضين بموجب احكام محكمة امن الدولة ونفي أو هرب مئات العائلات. وعلى رغم العنف والعسف الشديد من قبل الحكم، فإن الحركة الدستورية لم تنزلق خارج أهدافها المطالبة بإصلاحات جذرية في النظام السياسي والعودة إلى الحكم الدستوري، والأسلوب السلمي في المعارضة.
وفي سلطنة عمان فإن الإصلاحات السياسية تمثلت أساسا في التدرج في اختيار أعضاء مجلس الشورى، بمشاركة جزئية للناخبين مع ترك القرار النهائي إلى السلطان، وتحديث بطيء في البنية الاقتصادية والاجتماعية.
ويعود التغيير في قطر إلى انقلاب في هرم السلطة، باستيلاء ولي العهد حينها الشيخ حمد بن خليفة على ابيه في 1998 والذي وضع البلاد في ثلاجة وشهد عهد الشيخ حمد انفتاحا بطيئا ولكن مستديما، إذ صدر الدستور الدائم الذي يشبه دستور الكويت والبحرين، واجريت انتخابات بلدية والعمل على تنظيم إجراء انتخابات نيابية للمجلس الوطني الذي سيتكون على غرار مجلس الأمة الكويتي.
لكن محصلة هذه التغييرات في دول المجلس لا ترقى إلى الإصلاح الجذري والشامل والعميق أو إلى طموحات المعارضة. ويعود ذلك إلى عدة أسباب أهمها:
-1 زوال الظرف الضاغط، بإنهاء الاحتلال العراقي للكويت، وزوال الخطر العراقي بل ومحاصرة العراق وعزله.
-2 التراجع الغربي بقيادة أميركا عن الوعود بدعم عملية الإصلاح بعد أن لم تعد حاجة إلى الاجماع الدولي.
-3 ضعف قوى المعارضة وعدم تماسكها في ظل دولة ريعية تتحكم في أرزاق الناس ومصائرهم. كما أن ظهور خطر الأصولية الإسلامية، دفع التيار الديمقراطي للانكفاء واعطى الأنظمة مبررا للقبضة الأمنية المشددة. وللبحث صلة
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1527 - الجمعة 10 نوفمبر 2006م الموافق 18 شوال 1427هـ