إننا نعيش في عصر لاتزال وسائل المواصلات والاتصالات فيه تتزايد سرعتها وكفاءتها يوماً بعد يوم، فيزداد بازديادها انتقال الناس والأشياء والأفكار سهولة وسرعة، فيزداد بذلك تشابك مصالح الناس، ويكثر اعتماد بعضهم على بعض، ويقوى تأثير بعضهم في بعض. لم يعد من الممكن لأية أمة تريد تحقيق مصالحها أن تعيش منعزلة بنفسها عن غيرها، مهما كانت قوتها الاقتصادية وإمكاناتها العلمية والتقنية والبشرية. بل أصبح من الضروري لكل أمة أن تكون ذات نظرة عالمية، وأن تهتم لذلك بسياستها الخارجية اهتمامها بالسياسة الداخلية. لكن الناس في عصرنا مازالوا تتقاسمهم -حتى داخل البلد الواحد- الأديان والثقافات، وربما يقال وتتقاسمهم على المستوى العالمي مختلف الحضارات. هل من الممكن لسكان هذه القرية الأرضية المنقسمين هذا الانقسام أن يعيشوا مع ذلك متسالمين آمنين متعاونين على تحقيق مصالحهم؟ أم أن الصراع بين ثقافاتهم على المستوى المحلي وبين حضاراتهم على المستوى العالمي ضربة لا مفر منها؟ لا أحد يستطيع أن يجزم، فعلم المستقبل عند الله تعالى، وتصرفات البشر يصعب التنبؤ الجازم بها لما يعتريها من عدم العقلانية في كثير من الأحيان. لكن الأمر من الخطورة بمكان يستدعي النظر والتأمل. فلابد للعلماء والمفكرين ورجال الدولة المسلمين من أن يولوه من العناية ما يستحق نظراً وعملاً وتخطيطاً.
المفكرون في الدول الكبرى من أكثر الناس اهتماماً بهذه القضية لأنهم يقدرون من خطرها ما لا يقدر غيرهم. ويمكن تلخيص توقعاتهم في أربعة آراء: فمنهم من يرى أن الصدام بين الحضارات آت لا محالة، فهو ينصح قومه بإعداد العدة للدفاع عن الحضارة الغربية. ومنهم من يرى أن الصراع الثقافي قد بدأ في داخل الحضارة الغربية نفسها فلم تعد الحضارة التي كانت قبل. ومنهم من يرى أن الحضارة الغربية في شكلها الأميركي المتفوق، والمتمثل في الليبرالية السياسية، واقتصاد السوق هي مطمح أنظار الأمم، والغاية التي يتسابقون إليها، وحين يصلونها فتلك نهاية التاريخ في هذا المضمار. ومنهم من يرى أن التعايش السلمي بين الثقافات والحضارات ممكن إذا اتخذ الناس سبيل الديمقراطية العلمانية التعددية.
طبيعة العصبيات الثقافية:
ما الموقف الذي يجب على المسلمين اتخاذه إزاء الثقافات والحضارات المخالفة للإسلام في عصرنا هذا وفي ظروفنا هذه؟ إن الناس يهتدون في اتخاذهم لمواقفهم بما عندهم من علم وبما وهبهم الله من عقل. لكن المسلمين يهتدون إلى جانب ذلك بما حباهم الله تعالى به من هداية القرآن الكريم: وهداية القرآن ليست هداية دينية بالمعنى المحدود الشائع في عصرنا لهذه الكلمة. إنها هداية تشمل كل ما يحتاج إليه الناس أفراداً وجماعات في أمورهم الروحية والجسدية، في حياتهم الدنيوية والأخروية. من أنواع هداية القرآن المتصلة بموضوعنا هذا أن يعطينا حقائق عامة عن المجتمعات البشرية من النوع الذي يحاول علماء الاجتماع أن يصلوا إليه بدراساتهم التجريبية. يهتدي المسلمون بهذه الحقائق في نظرتهم للكون البشري، وفي تفسيرهم لما يحدث فيه، وفي تعاملهم معه. لا أقول إنهم يستغنون بهذه التوجيهات القرآنية عن دراسة الواقع واستخلاص الحقائق منه، لكن الهداية القرآنية تعطيهم في هذا الصدد حقائق كلية مهمة قد لا يستطيعون الوصول إليها بجهدهم البشري. من هذه الحقائق الاجتماعية: أولاً: أن كل جماعة من البشر ترى أن ما هي عليه من المعتقد والقيم والعمل أفضل مما عليه غيرها، مهما كان ما هي عليه باطلاً بمقياس الشرع الحق:
«كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبؤهم بما كانوا يعملون» (الأنعام: 108)
ثانياً: انه كلما كان غيرهم أقرب إليهم كان أحب إليهم: قال تعالى: «وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً» (الإسراء:73)ثالثاً: انهم لا يرضون رضىً كاملاً إلا عن من كان على شاكلتهم: قال تعالى: «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم» (البقرة: 120)
رابعاً: ان حرصهم على أن يكون غيرهم معهم يدفعهم الى الضغط على المخالف -وخصوصا مخالفاً يُساكنهم- بأنواع من الضغوط تصل أحياناً حد الضرب أو السجن أو النفي أو حتى القتل: قال تعالى: «وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك» (الأنفال: 30)
«قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنُخرجنَّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودُنَّ في ملتنا. قال أو لو كنا كارهين» (الأعراف: 88)
خامساً: ان من أهل الأديان والحضارات من يَعدُ دينه أو حضارته من خصائص قوميته أو عرقه فلا يريد للآخرين أن يشركوه فيها، بل لا يراهم مساوين له حتى من الناحية الإنسانية فلذلك لا يرى نفسه مُلزماً بأن يلتزم في تعامله معهم بالقيم الخُلقية:
قال تعالى: «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً، ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون» (آل عمران:75)
سادساً: لكن أولئك وهؤلاء جميعاً يريدون لمعتقداتهم أو لحضارتهم أن تكون هي المسيطرة وأن يكون أصحاب الحضارات الأخرى خداماً لمصالحهم. هذه الرغبة في السيادة والسيطرة تدفعهم الى أن يعدوا العدة لضمان بقاء حضارتهم وللدفاع عنها في حال وجود خطر يهددها، وللعمل لإخضاع الآخرين لها. وهم يستعملون في ذلك كل إمكاناتهم التي يرونها مساعدة لتحقيق هذه الأهداف بما في ذلك اللجوء إلى الحرب.
أوضح مثال في عصرنا على هذه الرغبة الجامحة في السيطرة، وفي الحرص على ضمان دوامها، هو حال الغرب ممثلاً في دولته الكبرى، الولايات المتحدة الأميركية. انهم لا يخفون شيئاً من هذا الذي ذكرناه، بل يعلنون عنه صراحة، ويفصلون الأمر فيه تفصيلاً تظنه حين تقرؤه كلاماً لخصومهم أو لأعدائهم. وهذا نفسه إنما هو من فرط ثقتهم بأنفسهم. فالأستاذ هنتغتون مثلاً يقرر في مقاله الذي طبقت شهرته الآفاق أن الغرب هو المسيطر الآن على المؤسسات العالمية السياسية والاقتصادية، وأن القرارات التي تتخذها الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو صندوق النقد الدولي والتي تعبر عن مصالح الغرب تبرز للعالم على أنها المعبرة عن مصالح المجتمع الدولي. بل إن عبارة المجتمع الدولي (التي حلت محل عبارة العالم الحر) صارت هي نفسها الاسم الملطف الذي يمنح الشرعية لكل الأعمال المعبرة عن مصالح الولايات المتحدة وسائر القوى الغربية. فعن طريق مؤسسة النقد وسائر المؤسسات الاقتصادية الدولية يسعى الغرب الى خدمة مصالحه ويفرض على الأمم الأخرى السياسات الاقتصادية التي يراها مناسبة.
ويقول: إن الهدف من الحد من انتشار الأسلحة إبان الحرب الباردة كان تحقيق توازن عسكري مستقر بين الولايات المتحدة وحلفائها والاتحاد السوفياتي وحلفائه. أما في عالم ما بعد الحرب الباردة فقد صار الهدف الأول من الحد من انتشار الأسلحة هو منع الدول غير الغربية من تطوير قدرات عسكرية قادرة على تهديد المصالح الغربية. يحاول الغرب أن يحقق هذا عن طريق الاتفاقات الدولية، والضغوط الاقتصادية، والحد من نقل تقنية السلاح والعتاد
العدد 1526 - الخميس 09 نوفمبر 2006م الموافق 17 شوال 1427هـ