إنّ تطور التعقيدات الثقافية والاجتماعية، وما يرافقها من تعقيدات اقتصادية، علاوة على تعقيدات السياسية العالمية، تضع كوكب الأرض بأسره على كفّ عفريت؛ فمعظم الأطروحات الفكرية الأيديولوجية الحالية ليست قادرة أن تقدِّم إلى الإنسانية شيئاً أكثر من أطروحة «نهاية التاريخ»، لأنها بغالبيتها تَشهد تلاشي المعاني على حساب الصور والمباني، وتكرسّ النزاع بين الحياة الداخلية للأفراد والواقع في الحياة المجتمعية، كما أن هذه الطروحات تغفل الواقع الروحي للإنسان، وتقوم على إفناء الكائن الداخلي الموجود فيه.
فالطرح الأيديولوجي القائل بوجود «إنسان جديد وعصري»، يؤلف مجتمعاً عادلاً، قد انهار تحت تأثير تعقيدات الأبعاد المتعددة لمستويات الواقع لأنَّ ما هو عادل في مستوى واقع ثقافة ما، لا يكون عادلاً في مستوى واقع ثقافة أخرى، إذ لا يمكن اختزال الواقع بمستوى واحد يحكمه منطق واحد، فهناك مستويات كثيرة للواقع تحكمها أنماط مختلفة من المنطق.
والمراقب اليوم يجد أن معظم الحركات التي قامت لترسي التعددية الثقافية وغيرها وتؤسس الديمقراطية وتفتح الأبواب للتحرر، انتهت إلى بث الفوضى والذعر والرعب ونشر البلبلة بين بني البشر، الأمر الذي يفسر لنا الفشل الذريع للمشروع الثقافي الأميركي، سواء في الدول التي احتلتها بشكل مباشر، أو في الدول التي تحمل ثقافة مغايرة عن ثقافتها وتدخل تحت وصايتها وإملاءاتها السياسية منها والفكرية والثقافية على حد سواء؛ لأن الطروحات الثقافية التي تفرضها الإدارة الأميركية على البشر لا تأخذ في الاعتبار تعدد مستويات الواقع، كما تُغفل أن الكائن الإنساني هو محور المدنية لا العكس، وهي تفرض توسع المدنية ذات النمط الأميركي، على العالم كله، الأمر الذي يهدد سلامة الكوكب الأرضي بأكمله ويضع الإنسانية أمام نتائج كارثية.
وعند استعراض المشهد الثقافي العالمي هناك أسئلة عدّة تُطرح منها: هل التعددية الثقافية ذاتها موسومة بالفوضى؟ أم أن هناك أشكالاً متباينة للتنوع والتعددية، ومعانٍ لا متناهية لمفهوم التعدد؟ ووفق أي مستوى من مستويات الواقع ينبغي أن تُعالج الأمور؟ وكيف لنا العبور بين مستويات الواقع وأبعاده؟
ومن البديهي أن الكمّ الهائل من الثقافات، هي التي تعكس الوجوه المتنوّعة للكائن الإنساني، وإذا كان من يدعو إلى تعدد الثقافات يسمح بوضع تأويل الثقافة بثقافة أخرى، فإن هناك تيارات تدعو إلى تلقيح الثقافات بعضها بعضاً، غير أن الطرح الأعمق - من وجهة نظري - هو الذي يكفل ترجمة أية ثقافة إلى أية ثقافة أخرى، ويضع في حسبانه مستويات الواقع ويتجاوزها في آنٍ، وهنا يكمن الإبداع الحقيقي للكائن الإنساني، لأن هذا الطرح هو الذي يمكننا من الحوار الفعلي بين الثقافات من دون أن يؤدي ذلك إلى ذوبانها، وذلك من خلال القدرة على ترجمة أية ثقافة في أي عصر من العصور، إلى أية ثقافة أخرى، سواء وجدت في العصر نفسه أو أي عصر آخر.
لذلك، فإن التطلع اليوم يقوم على مفهوم الوحدة الكونية الوجودية التكاملية، من خلال منظورات تعددية كثيرة لمستويات الواقع، لأن الواقع نفسه ينحلّ إلى حركة التأويل نفسها، فيغدو الواقع تقاطعاً لا متناهياً لمنظورات لا متناهية.
هذا الطرح للتعددية يُترجم من خلال معادلة رياضية من الدرجة الثالثة فأكثر، رسْمُها البياني يتضح من خلال منظومة ثلاثية الأبعاد، فتمتد «المفردات» في خط أفقي متباينة متصالحة في حال الاختلاف، وفي حال التميّز تنتظم وفق السلم العمودي متمايزة متفاضلة، وفي البعد الثالث تأخذ الواقع بمستوياته كلها.
والتعددية تصبح بهذا المعنى تعداداً، فهي أشبه ما تكون بالمفهوم الحسابي العددي، الذي يجعل من إضافة وحدة إلى عدد ما عدداً جديداً، ويصبح التنوع الثقافي وتعدد مستويات الواقع هو اللحمة التكاملية للوحدة الوجودية والكونية، لأنها تفترض منذ البداية تعدداً أصلياً ونسبيّة قائمة في جوهر الأشياء، وتكمن الوحدة وراء هذا المفهوم عن التعددية، فنكون في النهاية أمام مفهوم وحدة الكثرة.
تُرى هل آن للإنسانية أن تستلهم رؤية كونية جديدة، تحقق نقلة نوعية في الوعي عند الكائنات العاقلة، وتقدم نظرة جديدة عن العالم، رؤية كونية وجودية تتجاوز الزمان، وتتخطى المكان، وتتبنى طريقة تفكير ثلاثية الأبعاد، ميدانها ما يشكل لحمتها، فتصبح الإنسانية في ظلها تعددية معقدّة ووحدة مفتوحة في آن؟
إقرأ أيضا لـ "مروة كريدية"العدد 1525 - الأربعاء 08 نوفمبر 2006م الموافق 16 شوال 1427هـ