وأنا في إيران قام الطلبة وحراس الثورة الإيرانيون بالاستيلاء على السفارة الأميركية بعد حصار طويل، وفي ليل بهيم، وقد رد هؤلاء الثوار إلى الأميركان الصاع صاعين بما اقترفته أيديهم من جرائم وبما فعلوه بالزعيم الإيراني محمد مصدق، الذي كان يحلم مثل كثير من الإيرانيين الليبراليين ومن الأطياف الإيرانية المختلفة، أن يحقق لبلاده الرفاه والتنمية، بل والعزة والكبرياء، وشاء الشيطان الأكبر أن يذيقه وصحبه كؤوس الهوان من أمثال وزير خارجيته فاطمي، وغيره من أحرار إيران في تلك الحقبة، حقبة عبدالناصر وأحمد سوكارنو (زعيم إندونيسيا)، وأحمد سكتوري (زعيم غينيا). تلك الحقبة ذات الشعارات البراقة التي كانت تدغدغ عواطف الناس وتجعلهم في رضا وسعادة، وتمنيهم بالأماني الحلوة والمن والسلوى على رغم أوضاعهم البائسة.
أمضيت في طهران ثلاث سنوات هي فترة عملي الدبلوماسي ما بين 1979 و1982، وعايشت حدثين مهمين في فترة عملي، الأول احتجاز الرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية من قبل حراس الثورة وطلبة الجامعات الإيرانية، بدءاً من الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1979، ولمدة 444 يوماً. وشدني أداء السفير الجزائري اللامع عبدالكريم غريب الذي شارك وزير خارجية بلاده رضا مالك في جهوده التي تكللت في النهاية بالإفراج عن الرهائن الأميركان، بعد معاناة طويلة.
ومن السفراء البارزين ممثل فلسطين هاني الحسن، وقد أهدت الثورة الإيرانية الوليدة مبنى السفارة الإسرائيلية التي كانت علماً على نار أيام حكم الشاه البائد محمد رضا، لتصبح سفارة فلسطين، وأطلق على الشارع المطل عليها شارع القدس. وكان لهاني الحسن نشاط سياسي مهم وملموس على الساحة الإيرانية، كما كان له حضور عربي ودولي. ثم خلفه صلاح الزواوي سفيراً لفلسطين، وعلمت أنه أمضى عشرين عاماً في جوانب تلك السفارة، وهو نموذج من السفراء العرب، سقته للكاتب الهرفي.
أما الحدث الثاني المهم فلا أنسى في هذا المقام السفير البريطاني في طهران جراهام، الذي كان يجيد العربية إجادة تامة نطقاً وكتابة، وأذكر أنه قد دعي سفراء دول مجلس التعاون لزيارته، لتناول كوب من الشاي على الطريقة الإنجليزية. كانت دعوته هذه ودية، ومن أجل التشاور، نظراً إلى ما يربط دولنا الخليجية وبريطانيا من أواصر وعلاقات قوية في مختلف المجالات.
كانت نذر الحرب بين العراق وإيران تطل بوجهها الكالح، وبعض هؤلاء السفراء العرب لم يعر هذا اللقاء أي اهتمام، واعتبره انتقاصاً من مقامه الدبلوماسي الكريم. عند زيارتي له وبعد استعراض التطورات السياسية على الساحة الإيرانية والعراقية والخليجية، قال لي إن وزارة الخارجية البريطانية وأجهزة الاستخبارات البريطانية لديها معلومات ترقى إلى ما يشبه التأكيد والجزم، وخصوصاً أن طبول الحرب بين إيران والعراق أخذت تدق بصورة كبيرة، إنها قادمة لا محالة، طال الوقت أم قصر.
وأضاف السفير أن المصادر البريطانية تتوقع حدوثها خلال شهور الصيف هذه، وكان لقائي به خلال شهر يوليو/ تموز 1980، وقد أحطت في الحال علماً وزارتنا الموقرة، وأنني أتطلع إلى الحصول على إجازة. وتركت طهران مع أسرتي نهاية شهر أغسطس/ آب إلى إسبانيا، إذ تجولنا في قصور الحمراء وساحة أسودها العربية الشماء.
في العشرين من سبتمبر/ أيلول 1980 انطلقت الحرب المدمرة بين البلدين، وبقي السفراء الذين تخلفوا عن مغادرة طهران معتقدين أن نصيحة السفير البريطاني لهم لا تعدو أن تكون تخرصات وترهات، وقد عانوا الأمرين حتى يغادروا إيران عن طريق منطقة زاهدان على الحدود الإيرانية الباكستانية، لأن مطار طهران كان قد أقفل أمام الملاحة الجوية الدولية.
ومن طرائف الأمور أن القائم بالأعمال أميركي، وكان مستشاراً نشيطا في سفارته، وقد دعاني إلى عشاء لديه في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1979 في سفارته، التي هي أقرب بمبانيها الكثيرة إلى ضاحية صغيرة داخل مدينة طهران. كان هناك السفير الإسباني على مائدة العشاء وسفراء آخرون. كان العشاء حميماً، وهو يأتي بعد قيام الثورة الإيرانية في فبراير من ذلك العام بشهور قليلة. كان الأميركان وبعض المحللين الغربيين مازالوا يعولون على الادميرال البحري الإيراني القوي أحمد مدني في أن يقود انقلاباً ضد الإمام الخميني وينهي تلك الثورة التي أطاحت بشاه إيران محمد رضا بهلوي، حليف أميركا القوي وشرطي الخليج كما كان يطلق عليه. وفي النهاية بعد أن لاقى مصيره على أيدي رجال الدين تخلت عنه أميركا تماماً، ورمته على حد قوله «كالفأر الميت»، ولم تسمح له حتى بدخول أراضيها خوفاً من الثوار في إيران الثورة. وكان الرجل يعاني من سرطان قاتل، وبحاجة إلى مبضع الجراح الأميركي وترياقه ودوائه.
وظل الرجل وهو ملك الملوك يبحث عن بلاد تؤويه، إلى أن تعطف عليه الرئيس السادات، إذ ووري جثمانه ثرى مصر المحروسة.
وأخيراً سأروي لأخي الهرفي نموذجاً آخر من السفراء العرب، وهو سفير تونس محمد حمزاوي، وكان عميداً للسفراء العرب في طهران بحسب الأقدمية. في تلك الأثناء شرف الديار الإيرانية الكاتب الصحافي اللامع محمد حسنين هيكل، وكان يرافقه الكاتب المعروف فهمي هويدي. جاء هيكل إلى طهران ليعود ويكتب كتابه «مدافع آية الله»، وقام السفير الكويتي بإقامة وليمة كبيرة للأستاذ هيكل، وطلب عميدنا السفير الحمزاوي بعد ترحيبه به في كلمة ضافية أن يحيط مجلس السفراء العرب بمعلومات عن زيارته، ورد هيكل بأنه هنا لكي يستمع إلينا لا أن يتحدث، عندها انسحب السفير الحمزاوي بصورة غير لائقة ولا مبررة
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1525 - الأربعاء 08 نوفمبر 2006م الموافق 16 شوال 1427هـ