الثامنة والنصف من مساء الأحد الماضي، ثاني عروض “حكاية بحرينية” ثالث أفلام المخرج البحريني بسام الذوادي. مرة أخرى يقام العرض في احدى صالات سينما شركة البحرين بمجمع السيف، ومرة أخرى احتل المقعد ذاته الذي اتخذته في العرض السابق. مقصود كان تصرفي ذاك، إذ وددت حينها أن أختبر الفرق في الإحساس بالفيلم في المرتين، وأن أتيقن من أسباب روعته، هل هي تقنية تصوير مختلفة، كون مخرجه استعان بطاقم تصوير هندي، ابدع عددا من الأفلام الهندية الشهيرة، ام انه التصوير ام الأداء ام القصة.
حسنا ها قد بدأ العرض وهاهو الإحساس ذاته يعود بمجرد انطلاق موسيقى الفيلم التصويرية وحتى قبل أن تتضح معالم الصورة، هل هو عزف محمد الحداد إذاً، الذي يسبق صورة الذوادي بلحظات، أم هو استرجاع لحظات لماض جميل مع صور الذوادي وخيالات فريد رمضان.
ثم إن كانت الموسيقى هي السبب فهل تعمد الذوادي أن يبدأ معها أم إنها التقنية التي فرضت أن يسبق الصوت الصورة، لتنقلنا منذ البداية الى أجواء وإلى نفوس أبطاله.
أكان الذوادي يعلم أن موسيقى الحداد ستحمل ذاك الأثر على مشاهديه، فتشدهم منذ أولى اللحظات وتترجم لهم كل ملامح عالم رسمه فريد رمضان على الورق ليترجمه الذوادي على الشاشة.
وإن لم تكن الموسيقى فهل هي روعة اخراج الذوادي الذي بدا وكأنه يجمع في هذا الفيلم عصارة خبراته في عالم الإخراج ليتخذ تقنيات اخراجية جديدة و... جريئة، بكل ما تحمله الجرأة من معان!
فإن لم يكن هذا ولا ذاك، هل يرجع السبب للقصة والسيناريو الجميلين، اللذين يأخذنا رمضان عبرهما، كعادته دائما، الى بحرين السبعينات لنشهد بعض أوجه الحياة فيها، ولنلمس بأم أعيننا كيف شكلت بعض الإفرازات السياسية والمجتمعية آنذاك مجتمع السبعينات، ثم لنقرأ مع الاثنين كيف انعكست تلك الافرازات على واقع اليوم، وكيف امتدت تأثيراتها على الحياة في بحرين اليوم.
ورمضان لمن قرأه على الشاشة، أو بين أوراق كتبه، أو حتى بشكل شخصي، هو ذلك البطل الروائي الذي يتنقل شبحه دائما بين المشاهد التي يكتبها أو يقفز بين فصول حكاياته، أو حتى يطل دائما في كل الأمسيات المشابهة أجواءها لأجواء حكاياته. في هذا الفيلم على وجه التحديد يقفز فريد في كل مشاهده ووسط معظم حكاياته، منذ البداية نراه في جسد الطفل خليفة (نديم زيمان) الذي ينطلق راويا للحكاية حاملا روحا تشبه تلك التي تجسدها كل روايات رمضان.
خليفة هو الراوي، لكنه راو صامت لا ينطق ببنت شفة، بل لا يدفع الأذى عن نفسه إذ يأتيه من أقرب المقربين، والده أو شقيقاته. هو في واقع الأمر شاهد على الأحداث، يشاع أنه يجسد فريد في الواقع، كما ينقل أن الرواية التي يقر صانعوها بكونها مستوحاة من قصة واقعية، هي رواية عاشها رمضان فعلا وشهد معظم حوادثها إن لم يكن جميعها. ورمضان لم يعلق على سؤالي، بعد العرض السابق للفيلم، حول صحة الشائعة من عدمه سوى بابتسامة هادئة تشبه معظم ابتساماته لكنها تحمل في معانيها الكثير وبنظرة ما تبينتها بسبب اضواء دار العرض الصفراء الخافتة.
روح رمضان تتقمص جسد منيرة أيضاً، الشابة ذات العشرين ربيعا، وهي احدى أهم بطلات قصته. هذه الفتاة التي تقوم بدورها شيماء جناحي، في أول ظهور لها على الاطلاق، تكشف تمردها منذ البداية وفي واحد من أوائل مشاهد الفيلم حين تعلن رغبتها في الزواج من جذع نخلة، على طريقة ابنة شروف الزرقة، التي تفعل ذلك ايفاء لنذر قطعته على نفسها، بأن تزوج طفلتها بتلك الصورة إن ابقاها الله على قيد الحياة وهي التي فجعت قبل ذلك بفقد كل ما كتبه الله من بنين وبنات. أما منيرة فتفضل ذلك الزوج الجذع لأنه لن يكون قادرا على التحكم فيها أو رفع صوته عليها. بالمناسبة منيرة أو شيماء هي اكتشاف مذهل من اكتشافات الذوادي، أحبت الكاميرا وجهها، ربما، وهي التي قبلت ان تظهر لأول مرة من دون أي مساحيق، بتأكيد من والدها المصور محمد جناحي. وسواء كان الأمر يتعلق بحب الكاميرا لها أم لا، إلا أن شيماء بكل تأكيد قدمت أدءا كشف عن موهبة تحتاج الى رعاية واحتضان وتوجيه صحيح نحو ما لا يخنق قدرتها، ولا يحصرها في قوالب ضيقة خرقاء أو مشوهة. باختصار الفتاة اثبتت وجودها كوجه سينمائي، ولا يضير ان يكون هناك توجه لتبنيها كممثلة سينمائية يتناغم وجودها مع التوجه الجاد من شركة البحرين للانتاج السيمائي (الشركة المنتجة) والذي نتنمنى ان تحتضنه الدولة، نحو انشاء صناعة سينمائية ذات مستوى راقي.
عودة الى الفيلم، فإنه يبدو من الواضح أننا أمام عالم نسائي، تضع منيرة أول لبناته، فاتحة ملف المعاناة النسائية، مستعرضه أحد أسباب تلك المعاناة في ذلك الوقت. هل هي الرغبة في نقل معاناة المرأة بالدرجة الأولى التي انتجت هذه القصة وهذا الفيلم، ام إنها روح فريد التي كانت روح جيل بأكمله هي ما تنطلق في هذه الحكاية وهي ما تجد في قضية المرأة أفضل مخرج وأبلغ تجسيد. هل هي إذاً ذاكرة جيل بأكمله، وإن لم يكن هذا ولا ذاك اهي حكاية شعبنا؟ أهي شرح واف لأسباب ما وصلنا اليه اليوم، واستعراض للكيفية التي صاغت بها سياسات ذلك الوقت وظروفه المجتمعية حياتنا اليوم. أهي إذن محاولة لمناقشة واقعنا اليوم وربما التوصل الى حلول أو أشباه حلول لما نعيشه من معضلة اجتماعية سياسية.
قد يكون هذا أو ذاك، لا يهم... المهم اننا أمام تجسيد حقيقي لوظيفة السينما، وهذا يعني أننا أمام سينما حقيقية، ترقى بعقل مشاهدها، وتحاول ملامسة قضاياه، وإن بشكل غير مباشر تماماَ. والأهم أن المتفرج على حكاية بحرينية سيجد نفسه أمام نسيج فني مكتمل رواية وسيناريو واخراجا واداء وتصويرا وموسيقى بالطبع ليكون الناتج في النهاية فيلما يستحق الاشادة و”يرفع راس” البحرين السباقة دائما
إقرأ أيضا لـ "منصورة عبد الأمير"العدد 1524 - الثلثاء 07 نوفمبر 2006م الموافق 15 شوال 1427هـ