لحسن الحظ، تهب على المنطقة بين الحين والآخر، بعض الرياح الحاملة «لغبار الديمقراطية»، ولكنها لسوء الحظ رياح خافتة متقطعة، ما إن تهب حتى تخمد، وما أن يبدأ الناس في استنشاق «غبارها» المعدي، حتى يصابوا بالحساسية... النظم الحاكمة حساسيتها كارهة معادية، والشعوب المحكومة حساسيتها متلهفة معدية!
ونظن أن معظم الدول في المنطقة تشهد الآن، بل تسمع وتلوك أحاديث كثيرة ولغطاً متزايداً بشأن الإصلاحات، وخصوصاً الإصلاحات الدستورية، وكأنما هناك فعلاً دساتير حقيقية، لا تحتاج فقط إلا إلى بعض الإصلاحات!
في الأسابيع الماضية فاجأ الرئيس حسني مبارك، الشعب المصري للمرة الثانية، بموافقته على تعديل المادة 76 من الدستور المصري الصادر العام 1971، الخاص بأسلوب اختيار رئيس الجمهورية، وهي المادة التي سبق أن فاجأ الرئيس الشعب في مايو/ أيار من العام الماضي بمطالبته بتعديلها، لتسمح بانتخاب الرئيس بالاقتراع العام المباشر، بدلاً من ترشيحه بواسطة مجلس الشعب ليطرح على الاستفتاء الشعبي.
ولابد أن كثيرين قد سألوا عن أسباب تعديل مادة دستورية حساسة، لم يمضِ على تعديلها السابق غير سنة وعدة شهور قليلة، بينما حجة الفقهاء القانونيين تقول لنا دائماً، إن الدستور وثيقة طويلة العمر، لا يطولها التعديل السريع أو التغيير المتعجل!
والإجابة بسيطة، وهي أن التعديل السابق يحتاج إلى تعديل لاحق، بعد أن جرى كشف عيوبه ونواقصه وعدم صلاحيته أو توافقه مع أهداف الدساتير العامة، سواء من حيث الشكل والصوغ، أو من حيث المحتوى والمضمون، لقد اكتشف الجميع، أن التعديل السابق، لم يحقق الهدف ولن يحققه، وهو إطلاق الحرية للمواطنين في انتخاب رئيسهم من بين اختيارات عدة لمتنافسين متعددين من دون تمييز، وفق آليات سياسية ديمقراطية تتيح التكافؤ والتوازن السليم!
وحين نعود إلى التعديل السابق، المطلوب الآن تعديله، يصدمنا على الفور ذلك الصوغ الركيك، والتطويل الممل والتفسير المخل، محشوراً في صفحتين كاملتين، لمادة واحدة، وهذا معيب من حيث الشكل، أما من حيث المضمون فحدث ولا حرج، عن القيود التعجيزية المشددة، التي فرضت على كل من يفكر في ترشيح نفسه للمنصب الأول في الدولة، وهي قيود تنصرف إلى الأحزاب السياسية «الهشة بطبيعتها» حتى الآن، لكنها تتشدد أكثر مع المستقلين الراغبين في الترشيح، مشترطة حصول المرشح على تأييد وتوقيع 250 عضواً على الأقل من الأعضاء المنتخبين لمجلسي الشورى والمجالس التبعية المحلية بالمحافظات، الأمر الذي تنوء به حتى الجبال في ظل الظروف السياسية الراهنة، التي تتميز بضعف الأحزاب وضمور عضويتها جميعاً، وبقلة الإقبال الجماهيري على الانتخابات، بنسبة لا تزيد إطلاقاً على 20 في المئة، ثم هيمنة الحزب الحاكم «الوطني الديمقراطي» على كل مجريات الأمور، بحيث لا يستطيع غيره تقديم مرشح للرئاسة.
لذلك، لم يكن غريباً أن يقابل التعديل الذي جرى العام الماضي، برفض حزبي وسياسي واسع، وبتجاهل شعبي عريض، فضلاً عن اعتراض المثقفين والمفكرين، الذين قالوا وكتبوا واحتجوا من دون سميع!
الآن، لحسن الحظ عاد أصحاب القرار إلى الاقتناع بضرورة تعديل هذه المادة، بعد أن اكتشفوا مع الشعب، أن ترزية القوانين التي صاغها ووضع شروطها التعجيزية، هم من أصحاب الكفاءات الضحلة والنيات السيئة، أو على الأقل من الخبثاء الذين أرادوا إيقاع النظام المصري كله في حرج أمام نفسه وهو المتحدث دائماً عن الإصلاح، وأمام شعبه المتطلع إلى نظام ديمقراطي حقيقي، وأمام العالم الذي يضغط على الدولة والنظام والشعب باسم روشتة الإصلاح الديمقراطي المعلب والمستورد!
كما هو معلوم، فإن الدورة البرلمانية الجديدة، تبدأ اليوم، وعنوانها الرئيسي المعلن، هو دورة الإصلاحات الدستورية والقانونية، بعد أن أعلنت الحكومة انتهاءها من عشرات مشروعات القوانين الجديدة أو المجددة، لتقديمها إلى البرلمان، وبعد أن أعاد رئيس الدولة، فتح ملف المادة 76 من الدستور، في مفاجأة ربما للحكومة والبرلمان معاً... فكيف ستجري الأمور، وكيف سيتم التعديل الدستوري، وما هي أهدافه؟!
خبرة التجارب المريرة، تثير المخاوف الكثيرة، إذ كما يقول المثل الدارج «كثرة الحزن تعلم البكاء»، والمخاوف كامنة في أن يكون الهدف من إعادة طرح تعديل التعديل لهذه المادة خصوصا، هو إعادة صوغها بشكل أكثر إحكاماً، ربما بعد استجلاب ترزية قوانين أدق وأكفأ ثم اللجوء إلى التحسين الشكلي بتخفيف بعض القيود التعجيزية المفروضة، من حيث الشكل مع الإبقاء على المضمون... ثم قفل باب المناقشة بإقرار ذلك والانتقال إلى باقي جدول الأعمال.
وأعتقد أن الاحتقان السياسي المصحوب بالضغوط الاجتماعية الاقتصادية الرهيبة، لا يسمحان بأي تلاعب جديد في هذا الصدد، ولا يقبلون بتزويق الشكل الخارجي وتلوين المظهر السطحي، لإخفاء وتمرير المضمون المخبوء، وخصوصاً أن المطالب الشعبية لم تعد تقبل إلا بإصلاح دستوري وسياسي ديمقراطي واسع، واصلاً إلى حد السقف الأعلى في فلسفة الحكم وبنية النظام وآلية التداول وحرية الحوار والاختيار.
فإن كنا ندرك أن أقطاب الحزب الحاكم ومريديهم والمستفيدين من بقائه في الحكم طويلاً، يحرصون أشد الحرص على فلسفة التقييد والتشدد سواء باتجاه الحريات المدنية الأساسية العامة وحقوق الإنسان، وحرية الصحافة والرأي والتعبير، أو تجاه احتكار السلطة مع الثروة، عبر مؤسسات وحكومات وحتى أحزاب، تخدم مصالحهم وتدافع عن احتكاراتهم السياسية والاقتصادية والمالية.
فإننا يجب أن ندرك بالمقابل، أن هناك فوراناً عاماً في البلاد، يعمل على إطلاق إصلاحات حقيقية، تنقل الأوضاع إلى ديمقراطية حقيقية، وتجابه بقوة المريدين والمحتكرين والفاسدين أعداء الحرية، وتبدأ بإصلاح دستوري شامل، يضع المادة 76 من الدستور في صوغها ومحتواها الحقيقي «ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع العلني العام من بين متنافسين»، وتعدل المادة 77 بحيث تقصر ولاية الرئيس المنتخب على مدتين فقط، كما كان الحال في الدستور ذاته قبل العام 1980، ويوازن بدقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
ولأن التشدد يثير تشدداً مضاداً، فإن هناك تياراً قوياً يطرح الآن نظرية أخرى، لا تكفي بالتعديلات الجزئية للدستور، ولكنها تنادي بدستور ديمقراطي جديد تماماً، تضعه جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب مباشرة، يضع فلسفة جديدة للحكم ولتداول السلطة، ولإطلاق الحريات العامة، وصيانة الحقوق لجميع المواطنين من دون تمييز، ويتوافق مع المتغيرات الكثيرة والجذرية التي جرت في المجتمع، بل وفي العالم من حولنا.
وبصرف النظر عن التوقع بنجاح الحزب الوطني، في إقرار التعديل الجزئي فقط، بحكم غالبيته البرلمانية الكاسحة، فإننا نعتقد أن مصر ستمضي غداً في طريق الإصلاح الدستوري الشامل، بفضل «صحوة الحرية» التي إن كانت تهب ثم تخفت الآن، فإنها ستهب غداً أقوى مما كانت، ذلك أن النزوع للحرية والدفاع عن الحقوق، مبدأ رئيسي من مبادئ الحياة، كرسته الأديان السماوية والشرائع الوضعية، أما الخروج عليه ومعاداته عن طريق تحالف الفساد والاستبداد، فأمر استثنائي ووضع مؤقت!
غير أن تغيير الأوضاع نحو هذا الأفق المستقبلي المبشر، لا يتم بالكلمات فقط، ولا بالمظاهرات وحدها، لكنه يحتاج إلى عمل مؤسسي منتظم ومتراكم، ينظم المجتمع المدني ويحيي موات الأحزاب القائمة والنائمة، ويطلق حريتها مع حرية الرأي والتعبير والصحافة، ويقدم التضحيات الجسام في مواجهة نقيضه.
وقد علمتنا تجارب التاريخ الوطني والدولي، أنه ما من حاكم أو حكومة، سلّمت طواعية بالتخلي عن سلطاتها لغيرها، أو ضحت بهيمنتها المطلقة على سلاحي «السلطة والثروة» لصالح منافسيها ومعارضيها هكذا ببساطة، ولكن مثل هذا التطور والتغير، يحتاج أول ما يحتاج إلى توازن قوي بين المتنافسين و المختلفين في الرأي، كل يدفع بحجته ويدافع عن صحتها ويقدم التضحية من أجل إعلانها، ثم يحتكم إلى الشعب الواعي المستنير.
حسناً، كيف إذاً ستجري الأمور؟، وماذا يمكن لنا أن نتوقعه بشأن قضية التعديل الدستوري المطروح الآن؟، هل يفتح الباب على مصراعيه، أو يواربه قليلاً، أو يغلقه كاملاً؟!
الحقيقة أننا في ساحة صراع واسعة، تحكمها عوامل معقدة مركبة، من الأفكار والرؤى والفلسفات، إلى المصالح والمطامح والمطامع، وتتحكم فيها قوى وجماعات، بعضها نافذ السلطة شديد القوة غزير الثروة، وبعضها الآخر منهك مرهق، أنهكه الاحتقان الجاري، وأرهقه الفقر وأعياه الإحباط والبطالة، فمضى يبحث عن لقمة عيشه الضئيلة ليفك أزمته الأسرية، متخلياً عن حقوقه السياسية العامة، حتى يغيّر الله حاله، بينما الأمر الإلهي يحضه على تغيير حاله بلسانه إن أمكن ويبعده إن اضطر!
غبار الديمقراطية في بلادنا، يهب سريعاً ويخفت أسرع، لم يتحول إلى نسيم حتى الآن، وهو يحتاج إلى محركات ومنشطات ودوافع وحوافز، تنبع من صميم العقل والفكر والسلوك الوطني، وليست تلك المستوردة مع رياح الضغوط الأجنبية والإغراءات الأميركية، التي أثبتت فشلها وإجهاضها من أفغانستان إلى العراق، وقد كانتا النماذج الديمقراطية الاميركية الموعودة، فإذا بهما نماذج من حرب وكرب وبلاء وبيل!
حزب المتفائلين، يقول تفاءلوا بالخير تجدوه، وحزب المتشائمين يرد، ومن أين يأتينا الخير؟، إن كان الحال هو الحال، والمآل هو إعادة تحرير الصوغ، وتدوير المضمون، ليبقى الإصلاح الدستوري الديمقراطي مشدوداً على حد السيف، بين أهواء الذين يريدون، وأغراض الذين لا يريدون.
هدانا الله وإياكم سواء السبيل...
خير الكلام
قال تعالى: «قل إن هدى الله هو الهدى» (آل عمران: 73)
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1524 - الثلثاء 07 نوفمبر 2006م الموافق 15 شوال 1427هـ