إنّ القرار الأخير الذي اتخذته السلطات التونسية بإعادة فرض الحظر على الحجاب في الأماكن العامة سيشكّل بكل تأكيد مادة في غاية الأهمية للناشطين الإسلاميين. فمن أجل تعزيز أجندتهم المنافية للغرب، سيستحضرون ذكرى النساء المسلمات اللواتي أُرغمن على إزالة حجابهن في ظلّ نظام كمال أتاتورك في تركيا، ونظام الشاه في إيران، معزّزين بذلك صورة العلمانية في العالم الإسلامي كمفهوم غريب منافٍ للإسلام قامت بفرضه الأنظمة الوصولية الدكتاتورية.
وسيؤدّي التعصّب الديني الذي يتصف به المعارضون للحظر إلى تعزيز صورة الإسلام السياسي، في الغرب كمفهوم غير متسامح ومناهض للانفتاح يبدو أنه لايزال عالقًا في عصر ما قبل الحداثة. ويشكّل هذا الحادث أيضًا دليلاً آخر على التحدي الكبير الذي يواجهه جيلنا في إظهار مخاطر التطرّف في الأفكار، سواء كانت علمانية أم دينية، وفي العثور على أرضية مشتركة في الالتزام المتبادل بالكرامة الإنسانية. إنه يطرح السؤال الآتي: كيف سيتمكّن المذهب الإنساني العلماني من التعايش مع الإسلام السياسي في مجتمع عالمي؟
كان هؤلاء الملتزمون برأي عالمي مؤيّد للمذهب الإنساني، يختبرون أخيرًا تناقض الدّفاع عن الحقوق الراسخة لكلّ من التعبير والاستقلالية الدينية في ظروف يُخشى أن يقود خلالها السياسيون الإسلاميون المجتمعات المسلمة نحو التطرّف. وفي الواقع، قد يكون من السخرية أن تؤدّي تسمية العمليات الديمقراطية إلى إزالة المبادئ الليبرالية والعالمية، ولكن حتى الآن لايزال المنطق يُشير إلى أننا بعيدون عن تلك الفكرة التي سادت في القرن التاسع عشر من أنّ «بعض الناس» ليسوا ببساطة «مُهيّئين للديمقراطية». ليس من شأن التردّد في تطبيق الحقوق الراسخة للحرية الدينية والتمثيل السياسي الذاتي أن يدمّر الآمال على صعيد الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط ونهضة الاتجاه الإسلامي المعتدل وحسب، ولكنّه أيضًا يُضعف شرعية المشروع الديمقراطي برمّته تاركًا التطرّف يملأ الفراغ.
يبدو أنّ السلطات التونسية تستخدم المذهب الإنساني العلماني غطاءً عقائدياً بغية الحفاظ على نظام سياسي دكتاتوري. وللأسف، في هذا الصدد، تتوافق الحكومة التونسية التي كان يعتقد سابقًا أنها نموذج لتطور العرب، مع الممالك العربية الأخرى التي كانت تستخدم الإسلام كآلية للحفاظ على وجودها منذ زمن بعيد. وكذلك القانون التركي الذي يمنع تعليم اللغة العربية للأولاد دون سن الثانية عشرة، إذ يعكس بشكل أساسي أعمال الرقابة على الصحافة في جميع أنحاء العالم الإسلامي الذي يمنع المجتمع ككلّ من الاطلاع على الأدب الغربي.
إنّ الفشل في جميع هذه القضايا يدلّ على التزام تعصّبي بالأفكار، متخطيًا احترام المبادئ الأساسية للكرامة الإنسانية والثقافة والتعبير والدين والإرادة الجماعية. ولن يتم العثور على حلّ في السنوات المقبلة من خلال دعم المبادئ الفكرية التي تشكّل الأساس لأي نظام سياسي أو فلسفي، وإنما من خلال الالتزام المتبادل بالحقوق والقيم التي تتبنّاها تلك الأنظمة بشكل أساسي.
قد يتوجّب على المذهب الإنساني العلماني أن يتنازل ويتقبّل بعض أشكال التعبير الديني في الأماكن العامة، ولكنّ الجزاء سيكون امتدادًا لحدود التسامح. في المقابل، قد يتوجّب على الإسلام السياسي أن يتقبّل الحكم الدستوري بالإضافة إلى إجراءاته وضماناته بدلاً من المفهوم المطلق للقوانين الإلهية. ويبدو أنّ نقاط القلق الفرنسية والتونسية والبريطانية الرسمية من مفهوم الذوق الجمالي للنساء المسلمات تحتاج إلى تسوية كهذه.
كون المسلمين في جميع أنحاء العالم يشعرون بأنهم أقليات مستهدفة... إنه الوقت المناسب تمامًا لكي يُعاد النظر فعلا في مجموعة الأنظمة القانونية الإسلامية المقيّدة والمتحيّزة ضد غير المسلمين. قد ينتج عن هكذا تأمّل متبادل بالأفكار الخاصة مكان جديد، إذ يمكن للمفاهيم الدينية والعلمانية أن تتلاقى في عالم كبير تتزايد تعقيداته.
في الختام... إنّ الالتزام بـ «الإنسانية» في «المذهب الإنساني» مقابل التزام مماثل بالإسلام في «المذهب الإسلامي» قد يؤدّيان إلى إيجاد الحلول لسلسلة المآزق التي نواجهها حاليًا.
عباس برزيغار
باحث في قسم الدراسات الدينية بجامعة إيموري
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1524 - الثلثاء 07 نوفمبر 2006م الموافق 15 شوال 1427هـ