أن تكون «الطائفية علتنا الكبرى» أو هويتنا القدرية فإن هذا يفرض علينا أن نتوقف قليلاً من أجل مساءلة هذه الطائفية ومحتوياتها. ومن المعروف أن الانتماء الطائفي لا يتطابق مع الانتماء العرقي والقومي بدليل أن هناك شيعة وسنة من أصول عربية وفارسية وهندية وغيرها، ولو كان الأمر كذلك لما سأل الأستاذ عن انتماء تلاميذه في كاريكاتير خالد الهاشمي الذي أشرنا إليه في الحلقة السابقة. كما أنه لا يتطابق مع الانتماء الطبقي بدليل وجود سنة وشيعة من طبقات اجتماعية مختلفة. ومن الواضح كذلك أنه لا يتطابق مع الانتماء الديني؛ لأن هذا الأخير أعم منه وأشمل. وهو أيضاً لا يتطابق مع الانتماء الأيديولوجي فهناك شيعة وسنة ذوو انتماءات أيديولوجية متنوعة علمانية وشيوعية وليبرالية وقومية وإسلامية. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا عساه يكون هذا الانتماء الطائفي الذي يتحكم فينا وفي مصائرنا؟
يمكن تحديد الانتماء الطائفي في الحالة البحرينية بأنه انتماء اجتماعي ثقافي إلى جماعة ذات خصوصية مذهبية ضمن دائرة الإسلام الأوسع. وينطوي هذا التحديد على معيارين اجتماعي/ ثقافي ومذهبي في الوقت ذاته. فأن يكون المرء منتمياً طائفياً يعني أن يعيش بين جماعة/ طائفة معينة وأن يتقاسم معها عاداتها وتقاليدها وممارساتها الثقافية وطقوسها الاجتماعية، أقول «اجتماعية» لأن هذه طقوس وأعراف قد تكون اجتماعية بحتة لا دخل لها باعتقاد ديني أو مذهبي. أما المعيار المذهبي فيظهر في حقيقة أن المرء يكون منتمياً إلى جماعة/ طائفة ما حين يتقاسم معها جملة اعتقاداتها وتفسيراتها الخاصة ضمن دائرة الإسلام.
لكن هل هذا التحديد يتطابق مع الانتماء الذي تقوم عليه الطائفية عندنا؟ وهل هذا هو الأساس الذي يجري التمييز بين المواطنين بناء على موجِّهاته ومقتضياته؟ الجواب نعم ولا في الوقت ذاته. ولمعرفة حقيقة هذا الجواب المزدوج يمكن اختبار ذلك في سياسات توزيع «المنافع العامة» في حالات محددة، ولنختبر هنا حالتين اثنتين: حالة تحويل المذهب، وحالة تجاوز المذهب. أما الحالة الأخيرة فتقوم على تجاوز البعد المذهبي جملة وتفصيلاً، ويكون هذا حين يصير السني أو الشيعي خارج دائرة المذهب من الناحية التعبدّية والاعتقادية والفكرية كأن يصير المرء يسارياً أو علمانياً أو حتى ملحداً. أما التحويل الأول فيكون حين يبدّل المرء مذهبه إلى مذهب آخر كأن يصير السني شيعياً، والشيعي سنياً.
ولمعرفة حقيقة الطائفية عندنا علينا أن نختبر هذين الأمرين من خلال طرح التساؤل التالي: هل يتغيّر نصيب الفرد من «المنافع العامة» حين يقوم بأحد هذين الأمرين؟ وللإجابة عن هذا السؤال لن نكون محتاجين إلى أكثر من معاينة حالات فعلية قائمة في المجتمع البحريني لأناس غيّروا مذهبهم، وآخرين تجاوزوا الحالة المذهبية كلية. وبعد هذه المعاينة سيكون في متناولنا إجابة واضحة عن التساؤلات السابقة. وعندئذٍ سيتكشف لنا أن الحالة المؤثرة إيجاباً أو سلباً في نصيب الفرد من «المنافع العامة» هي حالة تحويل المذهب، أما حالة تجاوز المذهب فهي حالة لا تغيّر في وضع المرء من شيء اللهم إلا ما قد يجابهه من اعتراض اجتماعي يأخذ صوراً متنوعة من نفور إلى مقاطعة إلى إبعاد. أما على مستوى الانتفاع أو الحرمان من «المنافع العامة» فهذا أمر غير وارد بصورة محسوسة إلا في حالة تحويل المذهب، فهناك من حصل على وظيفة أو منصب حكومي بسبب تحويل مذهبه، وهناك من حرم من هذه الوظيفة والمنصب للسبب ذاته.
ماذا يعني هذا الكلام؟ المعنى المباشر هو انعدام حيادية الدولة في مستويات عديدة من أجهزتها، وهو الأمر الذي يستوجب المطالبة بضرورة «فصل الطائفية عن الدولة»، وهو الأمر الذي طرحناه في مقالات سابقة. غير أن المعنى الأخطر في هذه الحالة هو أن سياسات الهوية تعمد إلى تجذير الانتماء الطائفي بين الناس، وإظهاره في صورة الانتماء الجوهري والعميق والمعتبر (أو الذي يراد له أن يكون كذلك).
واللافت أنه في كل مرة ينفتح الحديث عن التمييز الطائفي بين المواطنين في توزيع «المنافع العامة»، يجري تغييب حقيقة هذا التمييز من خلال تجيير الحديث لصالح تعميق الانقسام الطائفي، أو من خلال الهجوم المضاد بتذكير الناس بأشكال قديمة وجديدة من الاستملاكات الطائفية لهذه الوزارة ولتلك المؤسسة. إلا أن هذا التغييب أيديولوجي في حقيقته، وهو أيديولوجي لا لأنه يقدم أكاذيب عن سياسة توزيع «المنافع العامة»، بل لأنه يقدم حقائق جزئية ومعزولة على أنها حقائق كلية وعامة. وهذه طبيعة من طبائع الأيديولوجيا الطائفية.
وسواء نجحت هذه الأيديولوجيا أم أخفقت فإن النتيجة هي التحريض على التنافس الطائفي من أجل استملاك ما هو عام في الدولة، دولة المواطنة لا دولة الطوائف. والحق أن هذا تنافس قديم ارتبط بتاريخ بناء الدولة الحديثة في البحرين. ومنذ أن ظهر في المجتمع مجال عام ومشترك بين جميع المواطنين انطلقت معه سياسات التنافس المحموم من أجل استملاكه طائفياً بصورة رمزية أو فعلية. وقد سبق أن تعرّضت لهذه القضية في مواضع عديدة، وما يعنيني من الرجوع إليها من جديد هو التأكيد على دور الاعتراف الضمني بهذه الاستملاكات في إعادة إنتاج الطائفية لا بوصفها «علتنا الكبرى» بل بوصفها هوية قدرية للأفراد، ومن أراد الخروج على هذه الهوية وجد نفسه في مواجهة خاسرة مع القدر. وهذه المواجهة الخاسرة هي التي تفرض على البحريني أن يعيش وضعية هاملت الذي يعاني من انقسام محيّر بين أن يكون طائفياً أو لا يكون. و»لا يكون» هنا ليست حالة من العدم والموت والانتحار كما في هاملت شكسبير، بل هي حالة من الحرمان المقصود من «المنافع العامة» التي صارت حكراً على من يكون طائفياً فقط.
وفي نظام يسعى إلى تأسيس نوع من المحاصصة الطائفية الجزئية والمرنة فإن نصيب الطائفيين سيكون هو الأوفر. الأمر الذي سيفرض على «غير الطائفيين» أن يكونوا «طائفيين»، أو يتظاهروا بذلك من أجل أن يصيبهم نصيب من الخيرات والامتيازات والمنافع العامة.
وللحديث صلة
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1523 - الإثنين 06 نوفمبر 2006م الموافق 14 شوال 1427هـ