وصف رئيس الوزراء البولندي ياروسلاف كاجنيفسكي أول زيارة قام بها إلى برلين أنها كانت ناجحة وتم خلالها كسر الجليد المحيط بالعلاقات البولندية الألمانية الدائمة التوتر. لكنه اعترف بعدم حل المشكلات الصعبة كافة التي تجعل هذه العلاقات صعبة بعض الشيء. وقال كاجنيفسكي عقب عودته إلى وارسو إنه تحدث مع المستشارة الألمانية أربع ساعات. هذا على الأقل نتاج زيارة رئيس الوزراء البولندي الجديد لألمانيا. أما المستشارة أنجيلا ميركل فقد أبلغت الصحافة الألمانية أن المحادثات كانت جدية تمت في جو ودي.
الملفت للنظر أن هذه الزيارة تمت في وقت تكاد تكون فيه العلاقات بين البلدين الجارين أسوأ ما بلغته. إذ منذ وصول التوأمين كاجنيفسكي إلى السلطة حيث أحدهما يتقلد اليوم منصب الرئيس والثاني يترأس الحكومة، تحدثت وسائل الإعلام الألمانية عن نظرتهما الناقدة إلى حد العداء لألمانيا. وفي الشهر الماضي قامت سفينة حربية بولندية بتفجير صاروخ قرب قارب سياح ألمان. وحينما تعين على ميركل أن تنجح في المهمة الصعبة بأن تمر زيارة المسئول البولندي على خير تعمدت استقبال كاجنيفسكي بحرارة. يبدو أن ميركل أرادت توجيه رسالة للضيف وإلى شعبه مفادها أن ألمانيا بلد صديق لبولندا على رغم من كل الخلافات التي تشوب علاقات البلدين.
ويجمع المراقبون في برلين على أنه على رغم عدم تمكن ميركل وكاجنيفسكي من إزالة أسباب الخلاف الرئيسية بشكل نهائي فإنهما استطاعا تحقيق بعض التقدم. عبر كاجنيفسكي عن هذا الود بالإشارة إلى أن المشكلات تحد أيضاً بين أفضل العائلات. ثم أراد معرفة الإجابة من الصحافيين حين سأل: أليس كذلك؟
خلال الـ 17 سنة الماضية لم تشهد العلاقات البولندية الألمانية تدهوراً مثلما يحدث في الوقت الحالي، وهو ما تلحظه وسائل الإعلام أو ما يمكن أن يقرأه المرء في تصريحات المسئولين السياسيين في كلا البلدين. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى سببين رئيسيين لهذا التدهور من وجهة النظر البولندية وهما قلق وارسو وشكها من مشروع مد خطوط الأنابيب التي ستنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق ومن ناحية أخرى تعويض المهجرين الألمان الذين شردوا من ديارهم الواقعة اليوم في جنوب بولندا بعد الحرب العالمية الثانية وكانت هذه الأراضي تابعة لألمانيا قبل الحرب.
أما قائمة الاتهامات الألمانية لحكومة وارسو فهي طويلة منها موقف الحكومة الرافض للمشاركة في تمويل مشروعات تبادل الشباب وغيرها. هذه الخلافات كما يقال في برلين ووارسو لا يعد كونها سوء تفاهم في غالبها أما الخلافات الحقيقية فهي غير ذلك تماماً يعود عهدها إلى أكثر من 50 سنة. بولندا ما زالت تعيش ذكريات الماضي النازي ولم تنس وقد لا تنسى أبداً ما حصل في العام 1939 حين اتفق هتلر وستالين على تقسيم بولندا بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا وأن ألمانيا النازية حين بدأت في احتلال أجزاء كبيرة في شرق أوروبا باشرت بالجارة بولندا ويظهر في الأفلام التي وثقت الحرب العالمية الثانية جنود ألمان وهم يزيلون نقطة حدود بولندية تمهيداً لاحتلال هذا البلد.
وصاحب ذلك دمار وخراب وقتل وتهجير راح ضحيته الملايين من أبناء الشعب البولندي. على الجهة الأخرى لم ينس قطاع كبير في ألمانيا أولئك الألمان الذين تم تهجيرهم وطردهم عقب الحرب العالمية الثانية من ديارهم في منطقة (شليزين) الواقعة اليوم ضمن حدود بولندا. مع إعادة توحيد ألمانيا في العام 1990 بدأ نزاع آخر سببه تأخر اعتراف ألمانيا بخط أودر/نايسه كحد فاصل بين الدولتين. اعترض اللاجئون الألمان بشدة على هذه الخطوة وهو ما جعل البولنديون ينظرون بشك لمنظمات اللاجئين الألمان الذين طردوا بعد الحرب وحتى اليوم لديهم أمل في استعادة أراضيهم.
يقدر عدد الألمان الذين أجبروا على ترك بولندا بعد الحرب بـ 660 ألف شخص، تركوا كل مالهم وطردوا من البلاد. وقد قام هؤلاء المهجرون برفع قضية على بولندا معتبرين أنهم لم يحصلوا سوى على 24 ساعة لترك كل شيء وهو ما لم يمكنهم من بيع ممتلكاتهم ولذلك فهم يطالبون بتعويضات. كما طرد نحو 6,5مليون ألماني من الاتحاد السوفياتي في أكبر عملية تهجير بعد الحرب قام بها الحلفاء المنتصرون على ألمانيا النازية.
ازداد التوتر في العلاقات بين برلين ووارسو خلال العام الماضي حين دعت النائبة الألمانية إيريكا شتاينباخ إلى إنشاء مركز يخلد ذكرى الطرد والتهجير في برلين وكانت تريد من خلاله أن تدون هذه الحقبة من التاريخ الألماني وقيام فعاليات ومؤتمرات للحديث عنها لتوضح مصير 15 مليون ألماني هجروا بعد الحرب. أما البولنديون أنفسهم فيرون هذه المطالبة تهويناً لجرائم النازية واستخفافاً بضحاياها من البولنديين والدمار الذي ألحقته ببلدهم.
بعد مجيء ميركل إلى السلطة في ألمانيا تنفس البولنديون الصعداء لأن المستشار السابق غيرهارد شرودر لم يكن محبوباً في بولندا بسبب علاقته الوثيقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومن نتائج هذه العلاقة أن شرودر يتقلد اليوم وظيفة عالية في شركة روسية لتصدير الغاز قام خلال حكمه بعقد اتفاق مع روسيا يقضي بمد خطوط أنابيب الغاز من روسيا إلى ألمانيا وهو ما زاد قلق البولنديين من أن يجرى يوماً استخدام هذه الأنابيب كقوة تحكم في الطاقة وبالتالي قوة ضغط سياسية تستهدف أيضاً بولندا. وقد أفزع قيام روسيا بقطع الغاز عن أوكرانيا قبل عام بسبب نزاع سياسي جميع الدول التي تستورد الغاز الروسي بينها أيضاً دول الاتحاد الأوروبي. في الوقت الحالي تعتمد ألمانيا كثيراً على الغاز الروسي وتستورد نسبة 80 في المئة من احتياجاتها من روسيا.
تخشى وارسو أيضاً من العواقب الاقتصادية للمشروع لأنه يتجاهلها تماماً ما يفقدها الحصول على عمولات لو تم نقل الغاز عبر أراضيها. زاد الطين بلة خلال عهد شرودر كون بولندا وقفت إلى جانب الولايات المتحدة في غزو العراق وأرسلت جنودها للحرب على العكس من ألمانيا التي عارض مستشارها شرودر الحرب وانتقد بولندا علناً. لكن مجيء ميركل لم يغير الكثير فقد سعى شرودر قبل تخليه عن تمسكه بمنصبه إلى تعيين أبرز مساعديه فرانك فالتر شتاينماير في منصب وزير الخارجية بحكومة ميركل كي يعمل هذا في العناية بالعلاقات الألمانية الروسية أما ميركل نفسها وبسبب السياسة الداخلية فقد تسببت بطريقة غير مباشرة في زيادة قلق البولنديين حين عبرت عن موقف مساند لقضية المهجرين الألمان وأيدت إنشاء مركز ضد التهجير في برلين.
باستثناء حصول تعارف بين ميركل وكاجنيفسكي لم يطرأ تقدم يذكر على واحدة من المشكلات التي تجعل علاقات البلدين متوترة. واختار كاجنيفسكي صحيفة «بيلد» الشعبية الواسعة الانتشار ليبلغ الألمان ضرورة تخليهم عن مطالبة بولندا بتعويضات وأكد رئيس الوزراء البولندي على موقفه حيال قضية الأنابيب من روسيا إلى ألمانيا. أكدت ميركل رفضها لموقف بولندا حيال مطالب التعويضات ومن وجهة نظرها إن التخلي عن هذه المطالب يزيد الأمور تعقيداً ولا شك أن ميركل تخشى اتهامها بالخيانة العظمى ثم ليس هناك مسئول ألماني مستعد للتنازل عن مطالب المهجرين الألمان. وتسعى منظمة المهجرين لرفع دعوى ضد الدولة البولندية أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وهو ما يجعل المراقبين يتنبأون بأن تزداد العلاقات البولندية الألمانية سوءاً. كي لا تتفاقم الأمور تردد عرض برلين على وارسو أن يجري مد أنبوب الغاز من روسيا عبر أراضي بولندا لكن تردد أيضاً أن رئيس الوزراء البولندي يريد عدم الاعتماد على الغاز الروسي ويرغب في التعاقد مع النرويج والسويد للتزود بالغاز كي لا تحصل روسيا على فرصة ابتزاز بولندا سياسياً والتهديد بقطع الغاز كما فعلت مع أوكرانيا.
ما لا شك فيه أن برلين تجد صعوبة كبيرة في حل المشكلات مع حكومة كاجنيفسكي لذلك عبرت النائبة شتاينباخ عن أملها بقيام حكومة أخرى في وارسو يمكن الحديث معها عن جميع القضايا. يذكر أنه بعد مجيء الشقيقين كاجنيفسكي إلى السلطة في وارسو صدرت عنهما تصريحات ناقدة لألمانيا. العلاقات البولندية الألمانية ما زالت كما كانت قبل زيارة كاجنيفسكي إلى برلين... مشوبة بالتوتر والشك المتبادل
العدد 1523 - الإثنين 06 نوفمبر 2006م الموافق 14 شوال 1427هـ