أكدت الدراسات التي قامت بها مراكز البحوث الدولية عن مصير اللغات قبل بضع سنوات إلى أنَ اللغات التي لا يستخدمها أقل من خمس سكان العالم لن يكتب لها البقاء في عصر المعلوماتية، وأنه لن يتبقى من اللغات العالمية إلا تلك التي تنتشر بين أكثر من مليار نسمة، وهي: الإنجليزية، الإسبانية، (بحكم استخدامها في أميركا الجنوبية) الصينية، واللغة العربية مشروطة إذا ما أصبحت لغة مسلمي العالم بأجمعه.
بذلك رأينا أن دولة مثل فرنسا، بعد أن وجدت لغتها مهددة إلى حد ما، نشطت بعد نشر هذه الدراسة بتأسيس ودعم الفرانكوفونية خوفاً على عالمية لغتها وثقافتها لدرجة أن الحكومة الفرنسية تدعم ما يقارب الـ 80 في المئة من موازنة المنظمة الدولية للفرانكفونية لتمويل برامجها.
فرنسا حكومة ومنظمات أهلية راحت تنفق سنوياً الملايين وبسخاء من أجل إحياء اللغة الفرنسية عالمياً أمام الهجمة الإنجليزية وخصوصاً بعد انتشار الإنترنت، وباتت تخصص سنوياً منحاً مجانية لدراسة اللغة الفرنسية لغير الناطقين بها بالإضافة لامتداد شبكة نشاطها خارج حدود الفرانكوفونية لتضيف رصيداً لها من الأصدقاء من خلال التفاعل الثقافي، من خلال الدور الكبير الذي تلعبه ملحقياتها. التحديات التي تواجهه اللغة العربية في عصر المعلوماتية كثيرة وخطيرة. إن اللغة العربية الآن تحتضر في كل المناطق الناطقة بها كوسيط لكل المعاملات التجارية، المراكز التجارية، التجارة الإلكترونية، كتابة اللوحات الإعلانية. لم تعد اللغة وعاء حضارياً فحسب، لقد أصبحنا اليوم نسمع عبارات مثل:«الصناعات اللغوية» والتي تعد حقلاً معرفياً جديداً بدأ ينمو في الجامعات ومراكز البحوث العلمية ويعرف «بهندسة اللغة» أو «الهندسة اللسانية». وهو ميدان متعدد الاختصاصات من أهم مقوماته اللسانيات عامة، واللسانيات الحاسوبية خصوصاً.
ولقد أدركت أوروبا أهمية مثل هذه المسألة، ففي الاتحاد الأوروبي يعكف، ومنذ العام 2004، على ترجمة نحو 80 ألف صفحة من قوانينه إلى لغات الدول الـ 10 التي تم ترشيحها للانضمام إلى عضويته بحلول العام 2004. ومن بين تلك اللغات، اللغة المالطية التي لا يتحدث بها سوى 400 ألف في العالم كله. ولذلك فإن التوقعات تشير إلى ارتفاع كبير في أسعار الترجمة بدول الاتحاد فضلاً عن تعقيد الإجراءات الإدارية المعقدة أصلا. وتواجه مؤسسات الاتحاد فاتورة بمئات الملايين من اليوروات لتعيين نحو 1800 مترجم جديد بحلول العام 2008، مع زيادة عدد اللغات الرسمية إلى 20 من 11 لغة بعد أن يشهد الاتحاد أكبر عملية توسعة منذ نشأته. ويقول الدبلوماسيون: إن الاتحاد الأوروبي يجب أن يدفع الثمن لحماية ديمقراطية أعماله وضمان ألا يشعر الأعضاء الجدد - وأغلبهم من الجمهوريات الشيوعية السابقة من شرق أوروبا - بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية بسبب تجاهل لغاتهم. ويقول رئيس مكتب التوسعة باللجنة التنفيذية للاتحاد إنيكو لاندابورو إنه حق ديمقراطي لكل دولة عضو أن تستخدم لغتها الخاصة، ويتعين الإبقاء على هذه القاعدة. لكن المسألة حساسة بالنسبة للكثير من الدول مثل: بولندا وجمهوريات البلطيق الثلاث التي شهدت تاريخاً طويلاً من تحمل هيمنة أجنبية ويتعاملون مع لغتهم باعتبارها من أهم رموز السيادة الوطنية. ويقول المحللون: إن هذه الحساسيات قد تتعارض مع الحاجة إلى تقليص نظام اللغة المعمول به في الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن تكون اللغة الرابحة في هذه الحالة هي الإنجليزية التي تفوقت بالفعل على الفرنسية والألمانية في اجتماعات الاتحاد الأوروبي. ويعمل في مؤسسات الاتحاد الأوروبي نحو 4000 مترجم فوري ومترجم تحريري نصفهم يعملون في اللجنة التنفيذية. ويكلف عملهم من يدفعون الضرائب ما يزيد على 800 مليون يورو سنوياً. وتترجم اللجنة ما يزيد على 1.3 مليون صفحة سنوياً وتوفر ترجمة فورية في نحو 11 ألف اجتماع. وقال المتحدث باسم اللجنة إريك مامير «إنه ثمن يجب دفعه لحماية الشرعية الديمقراطية للاتحاد الأوروبي». ويتبع الاتحاد حالياً نظاماً يقضي بأن تترجم الأحاديث من لغات غير شائعة الاستخدام مثل: اليونانية والفنلندية إلى الإنجليزية أو الفرنسية أولاً ثم تترجم منها إلى لغات أخرى
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1521 - السبت 04 نوفمبر 2006م الموافق 12 شوال 1427هـ