لبست البحرين في الأيام الأخيرة ثياباً من السندس والاستبرق، وتزينت بأجمل أدوات الزينة ذات الألوان الزاهية عروساً توشك أن تزف إلى عريسها، بعد أن تحدد موعد الزفاف 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2006. وعلى رغم أن هذا العرس الجماعي لن يقبل فيه إلا 40 عريساً إلا أن الحالمين بالفوز بقلب العروس قد تجاوز 220 متحفزاً.
ولعل من أجمل ما في هذا التنافس، أن كل المتحفزين قد أسدلوا عليهم أجمل الثياب وتعطروا بأفضل الأطياب، وصاروا يطوفون بالبلاد من باب إلى باب، ينشدون ود الأهل والأحباب وجميع الأصدقاء والمعارف والأصحاب، بابتسامة عريضة وأسارير منفرجة وأحلام تطاول السماء.
الجميع تدغدغ عواطفه الأمنيات بالوصول إلى قلب المحبوبة «قبة البرلمان» لذلك يخرج كل ما لديه من أفضال وتاريخ نضال ويحدث في كل القضايا التي تهم النساء والرجال والشباب والأطفال حتى ليخيل إليك بأن البلاد تعيش أحسن الأيام والليالي، فتقول سبحان مغير الأحوال.
حين تتنقل راجلاً أو حتى في سيارتك تلامس وجهك صور كثيرة، بعضها تعودت على رؤيته، وبعضها تتعرف عليه لأول مرة، وعلى صفحات الصور التي صارت كاللوحات الجدارية التي تزين واجهات الشوارع ومداخل المدن والقرى في مختلف مناطق البحرين، ترى العبارات المنمقة الجميلة والوعود البراقة التي تتسابق لخطف الأضواء والأصوات والثقة.
والغريب أن كثيراً من الشعارات التي تقرأها تتحدث عن المفاهيم ذاتها، وتستخدم المصطلحات نفسها، ربما مع تقديم كلمة هنا أو تغيير حرف هناك، وهنا تدخل إلى قلبك الحيرة وتبرز أمام عينيك الاسئلة، فتذهب بعيداً يشرد بك الخيال لتسترجع مواقف هؤلاء المتحفزين لخدمتك ولتمثيلك في البرلمان المقبل. تفتش في دفاتر ذكرياتك وتبحث بين ما تختزنه خلايا دماغك من مواقف وقضايا، فتزيد الحيرة في نفسك ويرتفع ترمومتر الاستغراب لديك حتى ليكاد الزئبق ينفلت من إطاره، سبحان الله ألم يكن المرشح الفلاني من أكبر دعاة الفتنة الطائفية، فكيف به اليوم يتحدث عن الوحدة الوطنية ويدعي بأنه يدافع عنها بلا هوادة؟
وتلتفت إلى اسم آخر، تجده قد امتشق حسامه وراح يهاجم الفساد والمفسدين، فتتفرس في وجهه قليلاً وتقلب صفحات الأحداث فتراه نجماً بارزاً في دنيا الفساد الأخلاقي وذي حضور لافت في الفساد المالي والإداري، فتتدارك بالقول: سبحان الذي يغير ولا يتغير؟
وحين تتوقف عن الإشارة الضوئية تواجهك صور كثير بمقاسات مختلفة، كلها مبتسمة وكلها تعدك بالعدل والمساواة والحياة الحرة الكريمة، فتحرك بصرك بينها وتتحرك بصيرتك في سجلاتها لتجد أن كثيراً مما تقوله اليوم كان حتى الأمس البعيد نقيض ما تفعل، فتبتسم وتقول صدق من قال إذا لم تستح فافعل ما شئت؟ لكنك فجأة تتوقف أمام صور لشخصيات وطنية وإسلامية ذات تاريخ ناصع البياض، شخصيات لم يتم شراء ذممها المالية ولم ينل الدهر منها ومن صمودها، هاجروا إلى كل الدنيا فما غابت صورة البحرين عن قلوبهم، تهيأت لهم الفرص تلو الفرص ليرموا صلبانهم ويعودوا إلى الحياة المترفة والسعيدة لكنهم آثروا الوطن على أنفسهم وقدموا المواطنين على أولادهم وبناتهم ونسائهم.
تغرورق عيناك بالدموع، تزداد دقات قلبك خوفاً وهلعاً وتضامناً معهم، تود لو أنك تستطيع أن تتكلم مع كل الناس عنهم، وتخبرهم عن معاناتهم ونضالاتهم داخل وخارج البحرين، في المنافي وفي السجون والمعتقلات، وفي الساحات التي لا يصمد فيها إلا الواثقون بأنفسهم وبحقوق شعبهم، الذين لا ينتظرون من الناس حمداً ولا شكوراً.
تمسك نفسك وتتمالك أعصابك وتقول: لقد نالوا الفخر ان ساهموا في صناعة هذه اللحظة، لحظة الفرح ولحظة الانطلاق نحو بناء المستقبل وتحقيق الحلم، وتعود أدراجك وأنت مطمئن البال بأن هذا الصنف من الناس ليس من طلاب المال أو الجاه، وأنه هنا في هذا الامتحان القاسي إنما يجسد إيمانه بحق الناس في الاختيار. إنه التسامي فوق الجراح، والرغبة في العودة إلى الناس والاقتراب منهم، فها هي الانتخابات توفر هذه الفرصة التاريخية لبدايات جديدة مبنية على المكاشفة والمصارحة، ومن دون شك فإن هذا النوع من المعادن الأصيلة التي تزداد لمعاناً وتوهجاً كلما زاد احتكاكها بالناس، وكلما عرفها الجمهور بعيدا عن إشاعات التشويه وإساءة السمعة. كم كانت البلاد بحاجة إلى هذا المهرجان الذي تأخر موعده أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، لكنه أتى، يحمل معه بارقة أمل لا تزال تدغدغ قلوب المحبين للوطن، الواثقين بأن عهداً جديداً قد أطل، وأن فجراً مشرقاً بالنور بدأت أشعة الشمس في رسمه أمام الناس ليتلمسوا طريقهم إلى التغيير وإلى توطيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم. هؤلاء الذين نكن لهم كل الاحترام والتقدير يعرفون بأن الطريق ليس مفروشاً بالورود، وأن أمامهم دروباً شائكة لابد بأن يعبروها حتى يصلوا إلى قلوب الناس، وإلى عقولهم فيزيحون عن كاهل كثير منها عناء سنوات من الغياب والتشكيك والارتياب. بعضهم سيتمكن من الظفر بقلب المحبوبة «قبة البرلمان» لكنه لن يطيل المكوث في أحضانها متغزلاً ومادحاً بل إنه سيبدأ منذ اليوم الأول في توجيهها وإعادتها إلى السراط المستقيم، حتى تستطيع هذه القبة أن تستوعب كل أبناء الوطن، وتتمكن من نشر العدالة والمساواة بعيداً عن التمييز والمحسوبية بينهم.
والبعض الآخر سيكتفي في هذه الفترة بالبوح بالأسرار، وبالحديث عن ما يجري خلف الأستار من قرارات غير منصفة في حق الفقراء والمساكين، وكيف تتم السرقات في عتمة الليل وفي ضح والنهار، وسيعمل جاهداً على إصلاح سكة القطار حتى يعود قادراً على حمل كل المواطنين إلى محطة الأمان من كبار وصغار.
إنها لحظة لن تنسى ومسئولية يجب أن لا تغيب عن بال أي منا في اختيار من يعتقد بصلاحه لتأدية الأمانة وحملها والحفاظ عليها، حتى يبعث الله لها من هو أقدر منه على حملها، ذلك أن الأمانة ثقيلة ولا يجب إلاّ أن تسلم إلى من يستطيع رعايتها جيلاً بعد جيل.
بقي أن نقول ان الروح المتسامحة التي بدأت في الانتشار بين عدد من المترشحين للمجلس النيابي، هي ظاهرة تستحق الإشادة والتشجيع، ذلك أن فترة الانتخابات لن تطول أكثر من شهر، ولا يجب أن تكون تداعياتها باعثة على العداء والتشنج، بل على العكس من ذلك يجب أن تكون بداية لنسج علاقات أكثر توطيداً ومحبة. كل الأمنيات الطيبة للذين حملوا ويحملون قلوبهم على أكفهم ويقدمونها للناس عربون محبة ووفاء من أجل أن يكون غدنا أفضل من يومنا وأمسنا في سبيل بحرين التعايش والانسجام والتسامح والتواصل.
* كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1520 - الجمعة 03 نوفمبر 2006م الموافق 11 شوال 1427هـ