العدد 1519 - الخميس 02 نوفمبر 2006م الموافق 10 شوال 1427هـ

مدخل إلى أدوات فهم النص

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

تصلني ردود فعل مختلفة بشأن بعض الأفكار التي أطرحها في مقالاتي، ولا أنكر أن بعض الملاحظات مفيدة وجديرة بالاهتمام ولكن الإشكالية عندما لا يدرك القارئ ما هو المقصود من الكلام فلا يحاول أن يستوضح من القائل مقاصد قوله بل يختار الاستغراق في تفسيره الخاطئ والمضي فيه قدما أخذا بالسهل طالما لا تترتب عليه تبعات اجتماعية! وهذا بذاته يكشف عن وجه من وجوه الأزمات اللاأخلاقية التي تتنامى فينا بمستوى يدعو إلى القلق الشديد.

ولقد أدهشني تفسير البعض لدعوتي إلى ملاحظة الواقع في مقام تفسير النص بأنها تفريغ للنص من مضمونه وإلغاء لقواعد الاستنباط الدلالي المتبانى عليه في الصناعة الفقهية، إذ إن هذا التفسير ليس صحيحا أصلا فإن مقصودي هو الإشارة إلى الدعوة القديمة/ الحديثة إلى جعل الواقع أداة من أدوات فهم النص إلى جانب الاستنطاق الدلالي للنص والى جانب الصناعة العقلية، فهي إذاً منظومة ثلاثية الأبعاد لا يكتمل فهم النص الا بمراعاتها من دون إنقاص لأحد جوانبها.

وقد يعترض البعض على العنصر الثالث الذي هو العقل، بأننا لا نضمن أن يصيب الحق، ولكن هذا الاعتراض يغفل عن أنه لا ضمان لصواب أي فكر بشري وحتى الاستنطاق الدلالي المحض للنصوص الدينية ليس بمأمن عن الخطأ لأنه لا يزيد على كونه فهما بشريا لنص إلهي، ولذلك تختلف فتاوى الفقهاء وتتعارض أفهامهم للنص الواحد، ومن هنا ندرك خطأ المفاضلة بين العقل والنص استنادا إلى افتراض العقل في قبال النص فالحقيقة هي أن النص والعقل ليسا في عرض واحد بل يكون أحدهما دائما مكملا للآخر وفي طوله فتارة يتقدم العقل على النص لأننا لا يمكن أن نسلم للنص إلا بعد قناعتنا بصدق مصدره، إذ نختار نصوص الإسلام مثلا لأننا توصلنا بعقولنا إلى نبوة النبي محمد (ص) ولولا ذلك لكانت نصوص القرآن والسنة لا تعني شيئا بالنسبة إلينا... وهكذا يكون العقل هنا في مرحلة سابقة على النص، وقد يكون العقل في مرحلة لاحقة وذلك لأنه يستخدم أداة لتفسير النص بعد التسليم بصحة الدين الذي صدر عنه، ولعل أجمع كلمة في الدفاع عن الاستدلال العقلي هي قول العلامة صاحب الميزان «إن من يعترض على الاستدلال العقلي هو كمن يسعى إلى نقض الشيء بالشيء ذاته، فحتى الاستدلال على إبطال العقل هو استدلال عقلي أيضا إذ ليس العقل إلا فن الاستدلال بقبول الشيء أو رفضه» . لاحظ: الشيخ قاسم الهاشمي في كتابه «دروس من القرآن للعلامة السيدمحمد حسين الطباطبائي - تحت عنوان: التفكر في القرآن الكريم».

وقد أشار الإمام المجدد الشيخ عبدالكريم الزنجاني في بعض مقالاته الشهيرة إلى أهم حيثيات العقل الديني وهو استنطاق مقاصد النص ومراميه، إذ قال «وإن النقص الموجود في تأليف الكتب الدينية ومنهاج التعليم الديني أوجب اختفاء أسرار التشريع وحقيقة فلسفة الدين الإسلامي فقصرت عقول الناس عن إدراك حقيقتها الواضحة الغامضة وأوجد ذلك حيرة عميقة في النفوس فانفسخ المجال لقلب الحقائق الإسلامية والتلفيق فيها وإفراغها في غير صورها وتلوينها بغير ألوانها حتى تشابهت بالأديان الأخرى التي لا يستفاد منها إلا في المعابد فاتخذها جمع من بسطاء المسلمين معتقدين بأنها التعاليم الإسلامية وناتج ذلك بعث بعض الألسن بتنقيص الدين والقول بأنه يعطل التفكير والإبداع ويدعو إلى الجمود والانحطاط ويصطدم بأسباب الرقي والتقدم ويخالف الحياة في جميع نواحيها». لاحظ: محمد هادي الدفتر في كتابه «صفحة من رحلة الإمام الزنجاني وخطبه ج1 تحت عنوان: مثال من إصلاحه الديني».

وكذلك تحدثت في مقالات سابقة عن ضرورة فهم الواقع الذي يتحرك فيه النص مشفوعا ببعض الأمثلة، ولأنني أظن أن الفكرة بالنسبة إلى بعض المهتمين لاتزال بحاجة الى مزيد إيضاح فإني سأستعين بنقل كلامين أحدهما لأخينا العلامة الشيخ علي حب الله، إذ قال بعد أن قرر افتراضيا أن الإمضاء الشرعي للمعاملات هو إمضاء للارتكاز العقلائي النابض بشتى أشكال التعامل ولذلك لا ينحصر بزمان المعصوم بل يشمل الأعراف كلها شرط عدم تعارضها مع الشريعة «ومن أمثلة ما يتبدل من الأعراف بالأزمان مع بقاء هذا الارتكاز: إمضاء الشارع الدية على العاقلة في القتل الخطأ المحض، والملاحظ أن الإمضاء مبني على نمط الأعراف القبلية المؤسس على الجماعة بينما هذا الحكم لا يمكن تطبيقه في زماننا مع تشرذم الوحدة القبلية هذه. وكذلك الحال في الغناء والموسيقى، إذ كان فيما مضى وسيلة لهوية عبثية أما الآن فيعد من أهم الوسائل التعبيرية. وكذلك الشطرنج، إذ كان متمحضا في القمارية وهذا التمحض ارتفع مع تغير العوائد والأعراف، وهذا الارتكاز العقلائي يتجاوز الأدلة المقطوعة المنصوصة وحاكم عليها لأنها مترتبة عليه ومتولدة منه بمعنى أنه ملاحظ في اعتبارها. ويلاحظ مع ذلك مثلا أن حرمة الربا لوحظ فيها المنفعة المتأتية من القرض، ومع الاستقرار النقدي في المجتمعات القديمة كان هناك شبه اتحاد بين الكم النقدي والقيمة بينما نجد الآن أن الرقم النقدي غير مرتبط بالقيمة فمن اقترض مئة دولار بقيمة شرائية معينة محددة وأراد زمن الاستحقاق سداد الدين وكانت القيمة الشرائية متدنية يمكن القول بإمكان الزيادة في الرقم حتى يساوي القيمة اعتبارا بالارتكاز العقلائي. وكذلك حال المرأة في السابق، إذ لم تكن ذات مستوى ثقافي عالٍ فاعتبر ألا تكون متولية لأمر من الأمور الخطيرة وألا تقبل شهادتها إلا منضمة، ومن الطبيعي ألا يكون التعامل مع المرأة التي كانت تخرج إلى الدنيا ثم إلى حفرة الوأد هو نفسه مع امرأة حالها الآن أنها تخرج إلى الجامعات والكليات». دراسات في فلسفة أصول الفقه والشريعة ونظرية المقاصد، تحت عنوان: «نظرية الزمان والمكان في الأحكام الشرعية». وإني وإن كنت قد لا أتفق مع بعض التطبيقات في كلام أخينا العلامة ولكنني أرى أصل كلامه جديرا بالاهتمام حقا.

والكلام الآخر للسيد الإمام الخميني (قدس سره)، إذ حاول تبرير اللغة المتشددة جدا في نصوص تحريم صنع التماثيل مثل «من صور التماثيل فقد ضاد الله»، ومثل «أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي ورجل يضل الناس بغير علم ومصور يصور التماثيل»، فقد قال في كتابه «المكاسب المحرمة» في بحث صنع التماثيل «والمظنون الموافق للاعتبار وطباع الناس أن جمعا من الأعراب بعد هدم أساس كفرهم وكسر أصنامهم بيد رسول الله (ص) وأمره كانت علقتهم بتلك الصور والتماثيل باقية في سر قلوبهم فصنعوا أمثالها حفظا لآثار أسلافهم وحبا لبقائها كما نرى حتى اليوم علاقة جمع بحفظ آثار المجوسية وعبدة النيران في هذه البلاد حفظا لآثار أجدادهم فنهى النبي عنه بتلك التشديدات والتوعيدات التي لا تناسب الا الكفار ومن يتلو تلوهم قمعا لأساس الكفر ومادة الزندقة ودفعا عن حوزة التوحيد، وعليه تكون تلك الروايات ظاهرة أو منصرفة إلى ما ذكر». ومن خلال الكلامين السابقين تبرز أهمية البحث التاريخي كمقدمة ضرورية للاستنتاج الفقهي لا تقل أهمية عن البحث الأصولي الذي يتولى تنقيح القواعد الدلالية، وتستند هذه الأهمية إلى أساس أنه لا يمكن التعرف على الأبعاد الحقيقية للنص بمعزل عن الظروف والملابسات التي صدر فيها، فالذي يقرأ قوله تعالى في سورة البقرة: 115 «ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم»، لا يمكنه أبدا أن يتعرف على المقصود الحقيقي منها ما لم يفحص السياق الذي صدرت فيه وتقولبت في وعائه

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1519 - الخميس 02 نوفمبر 2006م الموافق 10 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً