يكون من المهم كثيرًا للمهتمين بشئون الدعوة الإسلامية، أن يبذلوا المزيد من الجهد لإثراء الخبرة الإنسانية الداعمة للدعوة بكل أوجهها المختلفة، وهذا لن يكون إلاّ مع الانفتاح على كل الخبرات الإسلامية الإنسانية عبر العالم من أجل نقل المفيد والإيجابي منها، وتحاشي ما هو غير ملائم، وخصوصا أن هناك الكثير من أوجه التشابه الفكري والمجتمعي بين الدول الإسلامية على اختلافها بحكم وحدة العقيدة والقيم والشعائر، أقول هذا الكلام وفي مخيلتي الآن التجربة التركية في العمل للإسلام، وأحيا هذا المعنى في نفسي لقاءٌ رمضاني مع نخبة تركية من المهتمين بالعمل الإعلامي والفكري في المجال الإسلامي، واستمعت إليهم واطلعت على بعض جهودهم، فوجدت أنها مفيدة للغاية في إثراء خبرتنا نحن في العالم العربي، وأعادت إلى ذاكرتي ملاحظات وأفكاراً خبرتها وعايشتها سواء في زيارات إلى تركيا أو من خلال القراءة والرصد للتجربة التركية، ولكني لا أريد أن يتصور أحد أن الحديث هو وقف على تلك الخبرة، وإنما هي الأقرب إلى الخاطر فقط الآن كنموذج وحال، وإلاّ فإن هناك تجارب أخرى كثيرة، جديرة بالتأمل والدراسة والتحليل كالتجربة الماليزية والتجربة الباكستانية والتجربة الإندونيسية أيضاً، ولكن التجربة التركية بحكم الجوار الجغرافي والتجانس المذهبي هي الأقرب لنا نسباً ورحماً. كان السؤال الذي يلح على خاطري دائماً خلال السنوات الماضية هو: لماذا لم تعرف تركيا تلك المظاهر الحادة والعنيفة التي صبغت التجربة الإسلامية فيها مثل تلك التي شهدتها المنطقة العربية في أكثر من بلد؟ وبوجه آخر، لماذا عرفت المنطقة العربية ما يمكن وصفه «بعسكرة الصحوة الإسلامية» في حين أن التجربة التركية عرفت فقط «تسييس الحالة الإسلامية» بمعنى إدماجها في المشروع السياسي والتجربة السياسية، وأيضاً الاهتمام العميق بتفاصيل الحياة المدنية والأهلية، من خلال شبكة معقدة من الجهود الحضارية الرصينة في مجالات العمل الخيري والعلمي والبحثي والديني والثقافي والإعلامي وغيره، على رغم أن الصدامات العنيفة قد وقعت بين التيار الإسلامي وبين السلطات التركية في أكثر من عهد، ووصلت إلى حد إسقاط حكومات شرعية منتخبة واعتقالات وأحكام بالإعدام أيضاً، وإن كانت لم تُنفّذ مثل الحكم الذي صدر سابقاً على الزعيم الإسلامي المعروف نجم الدين أربكان، ومع ذلك لم تندفع الدعوة الإسلامية هناك إلى شيء من العصبية أو العنف، وأرجو أن نستحضر - على سبيل المثال - المقارنة مع ما حدث في الجزائر وتجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في صدامها الكبير مع السلطة الجزائرية، وما نتج عنه من مآسٍ كبيرة سارت بذكرها الركبان، ومازالت تعاني منها البلاد حتى الآن، وإن كان يُحمد للرئيس بوتفليقة جُرأته الإيجابية على تفكيك هذا الملف وإعلانه مشروع المصالحة الذي أنهى الأزمة تقريباً، وبدأت البلاد تتعافى وتنهض من جديد، وإن كان الأمر يحتاج إلى المزيد من الوقت، في تركيا لم يحدث ذلك، على رغم قسوة الصدام، وأيضاً على رغم الصعوبات القانونية والدستورية التي تواجه العمل الإسلامي؛ لأنك مجرد أن تذكر عبارة الشريعة الإسلامية فإن هذه جريمة يمكن أن تُحاكم بسببها، وعلى رغم وجود ترسانة القوانين والإجراءات والمعايير السياسية والاجتماعية المتعسفة التي وضعها مصطفى كمال أتاتورك، وحكمت البلاد من بعد ذلك وحتى اليوم، وكلها تضييق بل تخنق لأية فكرة أو خطاب إسلامي مهما كان اعتداله أو قضيته، ومع ذلك، نجحت التجربة التركية في أن تفكك حال الحصار، وأن تحقق نجاحات مثيرة للغاية على كل الأصعدة، من أول الصعيد السياسي؛ إذ أصبحت الأحزاب ذات التوجه الإسلامي هي الأبرز والأكثر قبولاً لدى الناخب التركي، أو على الصعيد الاجتماعي، وبرزت عودة الشعب التركي المسلم إلى قيمه الأصيلة، وانتشار الحجاب بصورة غير مسبوقة، وانتشار الفكر الإسلامي على نطاق واسع، أو من حيث النجاح المذهل في الأعمال ذات الطابع المؤسسي عن طريق تفعيل فكرة الأوقاف وحمايتها وتوسيع نطاقها، أو من حيث الثمار الواضحة للنجاح في قطاعات مدنية حديثة كانت غائبة عن الإسلاميين في العقود الماضية، مثل القطاع الإعلامي؛ إذ يمكن للمتابع للحال التركية أن يرصد تطوراً كبيراً في هذا المجال، فهناك صحف إسلامية تبيع أكثر من نصف مليون نسخة يومياً، بخلاف وجود تجربة سبّاقة في الإعلام الإذاعي، والتلفازي، والبث الفضائي، وحركة نشر خصبة جداً ومنهجية، تتوزع في قطاعات متخصصة أيضاً، كيف حدث هذا النجاح، وكيف نجحت الحركة الإسلامية التركية في أسر «عسكرة» الدعوة وخطابها، وكيف نجحت في أن تتعايش مع طفرات الحداثة، وأن تحتويها وتروّضها في العمل والفكر والثقافة والإعلام والسياسة وغيرها، هذا هو ما نريد أن نعرفه في العالم العربي، وتلك هي الخبرة الضرورية لنا، والتي نرجو أن ينشط لها ناشطون من أجل سبر أغوارها، ونقلها إلى القارئ والمثقف العربي، والمهتمين بالدعوة الإسلامية بشكل أساس
إقرأ أيضا لـ "جمال سلطان"العدد 1519 - الخميس 02 نوفمبر 2006م الموافق 10 شوال 1427هـ