السياسات الإيرانية محلُّ جدَل دائم. داخلها وخارجها لا يفرق بالنسبة للمراقبين. ما سأكتبه هو محاولة لتفسير السياسات الخارجية «الجدلية» لإيران، وبالتحديد عواملها ومقوماتها. لكنني مضطرٌ أن أبدأ باستعراض تاريخها الحديث، وبالتحديد أشكال تلك العلاقة ما بعد انتصار الثورة الإسلامية في الحادي عشر من فبراير من العام 1979.
ونحن كجوار عربي لإيران، يهمُّنا كثيراً أن نفهم سياسات ذلك البلد، كوننا في محيط جغرافي قريب، يُؤثر ويتأثر ببعضه، سواء بالسياسات المباشرة أو غير المباشرة. ولأننا في هَوَسٍ دائم من هكذا وضع، فإن الحال يقتضي منا ذلك. فجزء كبير من حلحلة الأمور، تبدأ من تفسير الأشياء بشكل صحيح، لكي نعرف إلى أيِّ اتجاه هي تسير.
ما يجب فهمه في سياسة إيران الخارجية، هو أنها ليست منتظمة ولا مسكوكة.
بمعنى أنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأوضاع الداخل الإيراني أولاً، وثانياً، بميزان القوى الموجود في الإقليم والعالم. لذا، فإن من اللازم العلم بأن السياسات الخارجية الإيرانية مرَّت بأربع مراحل، منذ انتصار الثورة الإسلامية في فبراير 1979، اتسمت كل واحدة منها بطبيعة مُحدَّدة، وبآليات تختلف عن الأخرى.
المرحلة الأولى: وتبدأ من بداية عهد الثورة (فبراير 1979) وحتى يونيو من العام 1989. وخلال هذه الفترة، كانت علاقات إيران (الثورة) مع محيطها الخارجي، لاتزال غير مُعرَّفة، وغير وظيفية بالشكل المهني، ولا تنبع من نظام مصالح متكامل أو مفهوم. فإيران كانت غارقة حتى شحمة الأذن، في شعارات ثورية غير مُحددة الأفق ولا معلومة المآل، ولا تعترف بالجغرافيا القومية.
وقد أدى كل ذلك، إلى تغلُّب منطق الثورة على الدولة، بحيث أصبحت الثانية خادمةً للأولى على طول الخط. وقد بات المبدأ المتبع في السياسة الخارجية الإيرانية يقوم على: التوغل والتمركز، بحيث تعتمد السياسة الإيرانية، على الاندفاع بشكل مباشر نحو الهدف بغير حسابات واضحة المعالم، ولا وضع خطة صَدّ لاحتمالية الرَّد وبأي وسيلة كانت.
وقد أدى ذلك النهج السياسي، إلى محاكاة إيران للشعارات الثورية بالدرجة الأولى وبشكل ميكانيكي. فلم تتردَّد طهران، في إرسال ألفي مقاتل كوجبة أولى إلى لبنان، في العام 1982 بأمر من الإمام الخميني. كما أنها دخلت على خط الصراع في دول كثيرة. كما أصدر الخميني فتوى هدر دم سلمان رشدي، بعد نشره كتاب «آيات شيطانية»، الأمر الذي أدى إلى قطع العلاقات الإيرانية البريطانية نهائياً.
كما أن الحرب العراقية الإيرانية (والتي استطال أمدها لثماني سنوات) قد عزَّزت من هذا الخيار، خصوصاً بعد اصطفاف الحركات الإسلامية في المنطقة العربية والإسلامية المساند لطهران، معتبرين تلك الحرب ما هي إلاَّ «مؤامرة على خيار الحكم الإسلامي المطبق في إيران».
المرحلة الثانية: وهي التي بدأت منذ العام 1989 ولغاية العام 1996. وخلال هذه الفترة كان الإمام الخميني قد توفي، وتولى مكانه آية الله خامنئي، وجاء إلى رئاسة الجمهورية الشيخ هاشمي رفسنجاني. وخلال هذه المرحلة، بدأت إيران في إعادة تعريف نفسها للعالم، بتفسيرها البراغماتي للقرار 598، الذي قضى بإيقاف الحرب العراقية الإيرانية.
لقد كان تعريف إيران لذلك القرار، يتخطى الجانب القانوني، إلى ما هو أبعد من ذلك. فالوضع الذي فرضته نهاية الحرب، والتفاهم ما بين بغداد وطهران، قد جعل من النظرة إلى الخصوم تتبدل. وأصبحت إيران مسئولة مسئولية جِدِّيَّة أمام المحافل الدولية، عند اتخاذها أي قرار تجاه ملف إقليمي ودولي. لذا، فقد ساد منطق «إعادة الانتشار السياسي» الإيراني في مناطق نفوذها وتدخلاتها السابقة.
لقد حاولت طهران خلال تلك الفترة اتباع سياسة تكسير الصور النمطية عنها، وبالتحديد صورة تصديرها للثورة باتجاه الخارج، لكنها وفي الوقت نفسه، لم تنسحب من مواقعها التي وفَّرتها لها ظروف المرحلة الأولى، وسياسة الاندفاع والتمركز. فبقيت في لبنان وسورية وأفغانستان ودول أخرى، وفق مفهوم إعادة الانتشار السياسي لا أكثر.
بمعنى أن إيران كانت تدفع تدريجياً بمنطق الدولة على حساب الثورة، وتغيير مفاهيم الاشتباك، والنظرة إلى الآخر، وتخفيف حِدَّة الفرز الإقليمي، والكف عن وصف الأنظمة العربية بـ «العميلة» للغرب، والاعتراف بشروط قواعد اللعبة، بالمقدار الذي يُلبِّي براغماتية الدولة على ديماغوجية الثورة، ولكن في الوقت نفسه، حاولت طهران الاحتفاظ بأوراق جيوسياسية في مناطق كانت قد وَلَجَت إليها كلبنان وفلسطين وسورية.
المرحلة الثالثة: وهي الممتدة من العام 1997 ولغاية العام 2004، بتولي محمد خاتمي سُدَّة الرئاسة. وقد كانت هذه الفترة المنعطف الأكثر تغييراً في وظيفة السياسة الخارجية الإيرانية. ففي السابق، لم يكن شخص هاشمي رفسنجاني بعيداً عن الصورة النمطيَّة لإيران، والتي سادت خلال فترة الثمانينات، لذا، فقد أبقى على جزء من يمينية الدولة.
في مرحلة خاتمي، ولكون الرجل وزيراً للثقافة والإرشاد خلال الفترة الأولى، ولكون التيار السياسي الذي ينتمي إليه (روحانيون مبارز) قد أعاد تفسير أدبياته السياسية اليسارية الدينية، فقد اتبع خاتمي سياسات أكثر ابتعاداً عن سلفه، وأكثر ديناميكيةً في النظرة إلى إعادة انتشار بلاده سياسياً.
لقد اعتمد خاتمي كثيراً على سياسة «خفض الجانب والمبادرة» بالشكل الذي يُوفر له فرصة القول بأنه قادر على الانسحاب من الإرث الثوري للدولة الإيرانية ما بعد العام 1979. فقد قام خاتمي بالتصدي لترميزات ذلك الإرث، فمنع تظاهرة الذكرى العشرين لاحتجاز الرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية، لأن إيران «لا ترغب في إحراق أعلام أميركية» كما قيل.
كما أن المواقف الإيرانية من زيارة المسئولين الإسرائيليين إلى جوار إيران لم تكن حادَّة كالسابق، كما حصل لزيارة إيهود باراك إلى أنقرة (حينها) أو زيارة سلمان رشدي إلى الهند. بل كانت الحكومة الإيرانية تنأى بنفسها عن إعطاء مواقف من ذلك، فيُحال الأمر إلى منظمات اجتماعية وخيرية، كمنظمة الخامس عشر من خرداد. (وللحديث صلة...).
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3843 - الجمعة 15 مارس 2013م الموافق 03 جمادى الأولى 1434هـ
متمكن
يا عيني عليك يا محمد تعجبني كتاباتك عن إيران
اذ ممكت تكتب عن صنعات وخترعات أيران
اذ ممكت تكتب عن صنعات وخترعات أيران
بالإنتظار عزيزي ..
مقال موفق ورائع منك يا سيدي الكريم