منذ سبعينات القرن الماضي اشتهر المخرج مارتن سكورسيسي بفيلمه «تاكسي». هذا الشريط السينمائي لعب بطولته روبيرت دي نيرو. مسرح الحوادث كانت مدينة نيويورك التي لضخامة حجمها تسحق الأفراد وتحولهم إلى كم مهمل في الأزقة والشوارع وتدفع بهم إلى الانحراف في سلوكهم الاجتماعي أو اللجوء إلى العنف وسيلة للخلاص من انسداد شرايين الحياة.
الآن يطل علينا المخرج سكورسيسي بفيلم «الرحيل» أو«الترحيل» الذي يعرض في سينما السيف. مشاهد الشريط مصورة في مدينة بوسطن التي لا تقل ضجيجاً عن نيويورك ولكنها تتميز بتاريخ مستقل في تنوعه وتركيبه. فالمدينة تعتبر عاصمة للأثرياء منها تخرج الكثير من رؤساء الدولة الأميركية. وتعيش فيها شريحة من العائلات السياسية التي تتحكم بالكثير من المفاصل الاقتصادية وتهيمن على مجلسي الشيوخ والنواب.
فيلم سكورسيسي لا يتحدث عن السياسة وإنما يكتفي بأخذ الجانب الاجتماعي لتطور المدينة. فبوسطن هي ساحة العمليات وتحديداً لذاك الإطار الخفي الذي أسهم في تكوين شخصيتها. «الرحيل» يتناول الجريمة مسرحاً للمشاهد العنيفة التي تنتهي بسلسلة من القتل والقتل وأخيراً القتل.
تسلسل حلقات القتل يستهدف إعادة إنتاج ذلك التاريخ الذي أسس هيكل المدينة الاجتماعي وتطورمن حال الى حال آخر لتستقر الجريمة في سياق مبرمج تكتسب أحيانا صفة الشرعية المنظمة أو المراقبة من الأجهزة.
الفيلم عنيف في مشاهده ومتوتر في لقطاته ولكنه يتمتع بقوة درامية تجعل المشاهد في حال قلقة ينتظر النهاية. وهي كانت مفجعة، إذ يتساقط في آخرها كل الأبطال.
بوسطن المدينة هي المسرح والعصابات المتعددة الأشكال والألوان التي تسيطر على شوارعها الخلفية تلعب دور الصانع الخفي لذاك الاقتصاد المجهول المصدر. حتى تكتمل الصورة أعاد المخرج عقارب الساعة إلى زمن سابق وقدم مختصرات سريعة عن المجموعات الأهلية التي تشكلت منها عصابات القتل والتهريب وفرض الخوات على المؤسسات والمحلات.
الشريط السينمائي يغوص إلى داخل النسيج الاجتماعي لبوسطن. في هذه المدينة تتعايش الجماعات وتختلف. فهناك الحي الصيني والايرلندي والآسيوي واللاتيني. وكل هذه الأحياء تتنافس على تزعم الاقتصاد غير المشروع. فهذا الاقتصاد ينتج المال ويراكم الثروات ويوسع من دائرة الاستثمار والتوظيف وينعش الحياة الليلية، ولكنه أيضاً يؤسس الجريمة.
من شريط هذه الجماعات المتخاصمة والمتقاتلة تظهر زعامات الأحياء التي تحاول أن تفرض سطوتها على الناس وتسلطها حتى في مواجهة عصابات القتل والإجرام. ومن هذا الشريط يتسلسل تاريخ المدينة ويتطور إلى أيامنا.
سكورسيسي انطلق من الماضي إلى الحاضر ليضع المشاهد في عصر ينتمي إلى فترة سابقة ولكن لايزال يفرض قانونه وأحياناً شروطه على الهيئات والمؤسسات الرسمية بما فيها الشرطة والمخابرات.
بطل فيلم «الرحيل» هو جاك نيكلكسون فهو زعيم عصابة نجحت في السيطرة على الأحياء الخلفية مستخدماً طرق القتل والبطش والتخويف وفرض الخوات على الناس. وشخصية هذا الزعيم تتميز بالعنف والبذاءة والعنصرية والكره للأجنبي. ولكنه بسبب فساده لا يتردد في التعامل مع «الأعداء» في التهريب وتبادل البضائع والممنوعات.
من هنا يبدأ الفيلم سياقه التصويري. فهو لا يتحدث عن الماضي بل يستخدمه كمادة أرشيفية لتشكيل صورة قديمة عن حوادث معاصرة. فالفساد لا يزال على حاله، والقتل كذلك، والرشوة وأخيراً اختراقات العصابات للشرطة والأجهزة المكلفة بحفظ الأمن ومحاربة الجريمة وملاحقة عمليات التهريب. فالمخرج أراد أن يروي قصة زعيم عصابة معروف بأعماله القبيحة وسلوكه الشرير وتملك الشرطة عنه الصور والمعلومات الكافية لاعتقاله وإدانته. ولكن الشرطة تتركه يتصرف ويتحرك ويهرب ويقتل من دون ملاحقة جدية. والسبب أنها تريده لحاجات أخرى ولذلك تتعاون معه وتستخدمه في وظائف معينة وهو أيضاً يحتاج لتغطية أموره وعدم كشفها.
وهذا النوع من تبادل الحاجات والوظائف أتاح لزعيم العصابة سلطة مخيفة إلى درجة أسعفته في تحقيق اختراقات لأجهزة الشرطة والتحقيقات. فهو يجند الأشخاص ويدربهم ويرسلهم إلى مدارس الشرطة تمهيداً للالتحاق بدوائرها ويقوم باستخدامهم لتهريب المعلومات وتضليل المحققين والتغطية على أفعاله. وأخيراً وبعد ان تنتهي وظيفة المدسوس يكشف اسمه للشرطة حتى تتخلص منه. وبهذه الطريقة كان يشتري الأجهزة بالكشف عن العملاء كذلك كانت الشرطة تساعده في التخلص منهم حين يلاحظ أن دورهم انتهى.
مقابل ذلك كانت الشرطة تدرب المجرمين وتعيد تأهيلهم لمساعدتها على كشف المعلومات عن عمل العصابات وأفعالهم. الاختراق متبادل. فالشرطي يخترق «الشرطة» والمجرم يخترق «العصابة». وبين العميلين تدور وقائع قصة الفيلم وتتطور بشكل متوتر ومثير للدهشة.
تفصيلات الشريط السينمائي كثيرة، وسكورسيسي استخدم التقنيات المعاصرة (أجهزة الهاتف النقال) واسطة حديثة لنقل المعلومات. لذلك نرى ان الهاتف (النقال) والانترنت والكمبيوتر يتشكل منها الإطار العام الذي منه تنفذ الجريمة المعاصرة.
العصابات قديمة العهد ولكنها نجحت في التطور وتحديث وسائلها في الاختراق والاحتيال وكشف المعلومات وتضليل الشرطة وغيرها من أدوات يمكن استخدامها في أكثر من وجه وحقل.
سيناريو الفيلم بسيط والمخرج تعمد منذ اللحظات الأولى إلى كشفه أمام المشاهد. فهناك مجرم اخترق الشرطة وهناك شرطي اخترق العصابة. والمعركة تدور بينهما، فهذا يريد كشف المجرم وذاك يريد فضح الشرطي. والمشاهد هنا هو المتربص لأنه يلاحق بتوتر الموضوع لمعرفة من هو الأكفأ والأسبق.
ينتهي الفيلم على مشاهد قتل يذهب الجميع ضحيتها حين يخاف «المجرم» المتخفي انكشاف أمره كذلك يخاف «الشرطي» المتخفي افتضاح أمره . وبسبب الخوف القاتل يتجه الكل إلى نهاية دموية عنيفة يقتل فيها زعيم العصابة على يد أصحابه، ويقتل صاحبه (الشرطي المتخفي) ويقتل (المجرم المتخفي) ويقتل أيضاً رئيس الشرطة... إلى آخره.
الجميع قتلى. ولكن الجريمة باقية لأنها أصلاً مؤسسة على تقاليد وموزعة على أنشطة تقوم على شبكات منظمة ومخترقة من الأدنى إلى الأعلى والعكس. وهذه النتيجة التي توصل إليها مخرج الفيلم تطرق إليها بذكاء من خلال عرض الاختراقات وتورط الأجهزة وتداخلها وتنافسها وتراتبها سواء على مستوى الدولة (أف. بي. آي) أو الولاية وأخيراً المدينة: بوسطن
العدد 1517 - الثلثاء 31 أكتوبر 2006م الموافق 08 شوال 1427هـ