لا يسعنا ونحن نتابع ما يجري في الساحة الفلسطينية من صراع واقتتال، سوى دعوة الفرقاء الفلسطينيين إلى العودة إلى الرشد، والتفاهم والتصالح، وصولاً إلى وفاق وطني عام، كان بالأمس نموذجاً فريداً، وأصبح اليوم سراباً تلوثه خطيئة الفتنة وشبح الحرب الأهلية.
ويعز على هذا القلم، الذي قضى جُلَّ عمره مؤيداً القضية الفلسطينية ومدافعاً عنها، في كل الظروف والأحوال، أن يتهم بعض القادة الفلسطينيين بكسر أيقونة الثورة الفلسطينية، ألا وهي الوحدة الوطنية، وذلك باستباحة دمها وتمزيق صفوفها، وتحويل الحلم الثوري الفريد إلى كابوس دموي رهيب، لا يستفيد منه إلا العدو الصهيوني الشرس، وإلا كل شامت من كل صوب!
الاقتتال الفلسطيني الدائر تعبير صريح عن صراع على السلطة والنفوذ، بين أطراف فلسطينية كانت حتى الأمس القريب، متوافقة على هدف تحرير الأرض المحتلة، وبناء الدولة الفلسطينية وإنقاذ القدس سلماً أو حرباً، وحين يتحقق هذا الهدف الاستراتيجي يمكن أن تختلف الأطراف على طريقة إدارة الدولة وحكم الوطن المتحرر، ولكن المأساة جرت بأسرع مما يتصور عاقل، إذ تقاتل هذه الأطراف، وخصوصاً «فتح» و»حماس»، قبل أن تبدأ حتى الطريق السليم لتحقيق الهدف، فإذا بها تكسر أيقونة الثورة، وتلوث طهارتها وتخرق ميثاقها، بل تلوث تاريخ أقدم حركة تحرر وطني في العالم وتسيء إلى مبادئها ورموزها وقادتها التاريخيين!
وإلا ماذا يعني هذا العنف بين الأخ وأخيه؟ وماذا يعني القتل المتبادل والمتعمد بين «الفتحاويين» و»الحمساويين»؟ وأين الوثيقة المقدسة لحرمة الدم الفلسطيني؟ وكيف ضاعت البوصلة الوطنية، التي طالما حافظت عليها الثورة الفلسطينية عبر العقود، في ظل الضغوط الأجنبية والعربية والاستفزازات الإسرائيلية؟
وها هو التاريخ ونحن من خلفه، نُحَمِّل الجيل الحالي من القيادات الفلسطينية، مسئولية تحول الحلم الثوري النبيل، إلى كابوس دموي رهيب، أضاع أو كاد يضيع الهدف الرئيسي في الاستقلال والتحرر، على عكس ما كانت تفعل من أجله القيادات التاريخية السابقة، بل وعلى نقيض ما فعلته كل الثورات الوطنية في العالم.
نعلم ونفهم ونقدر الضغوط الرهيبة التي تمارس اليوم على القيادات الفلسطينية، وندرك مدى خطورة الحصار الحديد المفروض على الشعب الفلسطيني وقياداته، الذي يشمل طوقين، حصاراً إسرائيلياً مدعوماً بالأسلحة القاتلة، وخارجه حصار دولي مساند لطوق الحصار الأول، عقاباً للشعب الفلسطيني الذي خدعته أزياء الديمقراطية الزاهية وربما الزائفة، فأنجز انتخابات نزيهة شهد بها العالم كله، وفي مقدمته المراقبون الأميركيون والأوروبيون، وانتخب في يناير/ كانون الثاني الماضي، مجلساً تشريعياً ديمقراطياً، ثلثاه على الأقل من حركة «حماس»، التي كانت بالأمس في المعارضة، وتراجعت أسهم «فتح» التي كانت في الحكم، تعبيراً حقيقياً عن تداول السلطة عبر صناديق الانتخابات، لكن ذلك لم يأتِ، على رغم الديمقراطية، على هوى أدعياء الديمقراطية في «إسرائيل» وأميركا وأوروبا بل وفي العالم العربي، فانقضوا على التجربة مقاطعة وحصاراً وإذلالاً وتجويعاً، حتى تنتكس وترتد، ويرتدع هذا الشعب الأبي.
نفهم ونقدر كل ذلك، لكن الذي لا نفهمه حقاً ولا نقبله، هو أن ينفجر الصراع السياسي والاقتتال المسلح، بين طرفي المعادلة، (فتح وحماس) على نحو ما نشهده ويشهده العالم كله، تفتيتاً للوحدة الوطنية واستباحة لحرمة الدم الفلسطيني، فإذا بالشعب المحاصر يدفع الضريبة مرتين من لحمه الحي وأرواح أبنائه، ويتعرض للقتل مرتين بسلاحيه، قتلى وشهداء بسلاح إسرائيلي لا يتوانى عن العنف الدامي، وقتلى وشهداء فلسطيني لا يعرف حدود الصراع وأساليب إدارته، بالديمقراطية نفسها التي سبق أن أدهشت العالم بحسن ممارستها في انتخابات يناير الماضي!
ولأننا من الذين لا يسرفون في اتهام «فتح» وحدها أو السلطة الوطنية بقيادة محمود عباس وحده، أو حركة «حماس» وحدها، بإشعال هذا الاقتتال الداخلي المسلح، فكل منهم أخطاؤه وخطاياه، يجدر بنا أن نتعمق قليلاً في الأسباب والنتائج المتدحرجة مثل كرات الثلج، بل مثل كرات النار!
فلقد أدت اتفاقات أوسلو 1993، إلى دخول الزعيم التاريخي الراحل ياسر عرفات، وكوادره وبعض قواته، إلى غزة والضفة الغربية «تحت الاحتلال» العام 1994، وفوقها بدأ بناء أسس «السلطة الوطنية» على شاكلة حكومة ومؤسسات غير مكتملة، وفق أرض محتلة تسعى لبناء دولة وهي منقوصة السيادة أملاً في استكمال هذه السيادة بتحقيق الاستقلال الوطني الكامل، وفق قرارات الأمم المتحدة، واتفاقات ومبادئ مؤتمر مدريد ثم أوسلو وما تلاها.
وفي ظل هذه الأوضاع غير الطبيعية، حيث سلطة بلا حكومة حقيقية، وحيث شعب بلا دولة واضحة المعالم، اختلطت الأوراق سواء بين المنظمات الفلسطينية المتنافسة، أو بينها وبين التدخلات والاستفزازات الإسرائيلية، في غياب دور فاعل لدول العالم، بما فيها الدول العربية ذاتها.
ولم يكن غير عرفات القادر بحكم زعامته الكاريزمية ونضاله التاريخي، على فرض سطوته وتحكمه وقراره حتى على المختلفين معه، بمن في ذلك زعيم كاريزمي آخر هو مؤسس وزعيم «حماس» الشيخ أحمد ياسين الملتصق بأرض غزة، وقادة آخرون في الخارج مثل زعيم الجبهة الشعبية جورج حبش وزعيم الجبهة الديمقراطية نايف حواتمة وزعيم الجناح الفتحاوي المنشق أحمد جبريل، وكلهم ظلوا بالخارج.
لكن عرفات الذي طالما انتقدنا بعض ممارساته، حوصر عقاباً على تمسكه بالهدف الاستراتيجي وبالثوابت التاريخية لأيقونة الثورة، ثم قُتل مسموماً بالسم الإسرائيلي، وقُتل ياسين بالصاروخ الإسرائيلي، وانتقلت القيادة في «فتح» و»حماس» إلى محمود عباس وخالد مشعل، من كاريزما عرفات إلى دهاء عباس وحرفيته، ومن رجاحة عقل ياسين إلى حيوية وشباب مشعل وهنية والزهار وغيرهم... اختفى القادة التاريخيون في الحركتين، بل في المنظمات الأخرى بتواري حبش وحواتمة وجبريل، وبرزت أجيال أخرى، منها من يريد الاستئثار بالسلطة والنفوذ، استناداً للإرث التاريخي، ومنهم من يتعجل ركوب السلطة استناداً إلى النضال اليومي على الأرض، وفي سبيل ذلك تبادل الجميع كسر المحرمات وصولاً إلى استباحة الدم الفلسطيني!
هكذا تحولت خرائط العمل الفلسطيني، صراعاً على السلطة فوق جثة الوحدة الوطنية، وتراجع عند كثيرين مفهوم المقاومة لتحرير الوطن، لصالح تقدم مفهوم الحكم والاستيلاء على السلطة من دون شريك، في ظل غياب أسس الدولة ومفهومها وقبل اكتمال قواعد قيامها وشرعيتها والاعتراف بها واقعياً، لقد تسابق الجميع على الاستئثار بجلد الدب قبل اصطياد الدب... فجرى ما جرى ويجري الآن.
وعلى رغم الصراع على السلطة والثروة والنفوذ، الذي أشاع فساداً لا تخطئه العين، وعلى رغم ضياع معالم أجندة وطنية موحدة وتفرقها بين القبائل المتصارعة، وعلى رغم ضياع هيبة القانون النظام، في كانتون غزة المحاصر، وفي أرجاء الضفة الغربية المشتتة الممزقة بقوة الاحتلال، وعلى رغم التجويع وفرض المقاطعة الأميركية الأوروبية على الفلسطينيين تحت حكم «حماس»، فإن كل ذلك لا يبرر كسر المحرمات المقدسة باستباحة الدم الفلسطيني عبر الاقتتال بين حركتي «فتح» و«حماس»، ما يحقق في النهاية الهدف الإسرائيلي بتفجير الداخل الفلسطيني ليسهل التهامه نهائياً.
ولقد بلغت الفتنة مداها خلال الفترة الأخيرة، تغذيها «إسرائيل» وتلهبها أميركا وأوروبا، ويساندها العزوف العربي الواضح، والفتنة هي الخطيئة الكبرى التي لن تغفر، حين يتحول السلاح الفلسطيني من التوجه نحو العدو إلى التصويب في صدر الشقيق، وحين يتحول الوضع إلى سلطتين متناحرتين برأسين متقاتلين، يدعي كل منهما أنه وحده يملك الشرعية، وحين ينفلت الأمن، ويتحول السلاح الفلسطيني الواحد في أيدي سلطة موحدة، إلى أسلحة مختلفة متقاتلة في أيدي سلطات متعددة، تتعدد فيها بل تتصارع مراكز اتخاذ القرار، ففي «فتح» الداخل قرار يمسك به الرئيس أبومازن، وفي «فتح» الخارج قرار آخر يمسك به فاروق قدومي، وفي «حماس» قرار يمسك به خالد مشعل في الخارج، وقرار يمسك به إسماعيل هنية في الداخل، ناهيك عن استقواء كل منهم بمساندات خارجية متناقضة، سواء الدعم الغربي العربي لفتح، أو الدعم الإيراني السوري لحماس، وفوق الجميع تلعب «إسرائيل» وتستقوي بسلاح القتل والعنف والتحريض!
اقتتال وصراع واستقطاب رهيب وفتنة كانت نائمة فالتهبت، وقع في أتونها الشعب المقهور المحاصر، الذي ضرب الفقر والبطالة 65 في المئة منه بين عشية وضحاها، والذي يعاني سوء التغذية والعطش والإظلام، ناهيك عن القتل المنظم والاغتيال المستمر والاعتقال الدائم، الذي تمارسه «إسرائيل» بلذة مرضية وشماتة هائلة، لم تتحقق لها إلا بفضل القيادات الفلسطينية التي كسرت أيقونة الثورة!
المذهل والمؤسف والمزعج في الأمر، أن هذه القيادات الفلسطينية المتصارعة، لم تدرك حتى الآن أن صراعها على امتلاك جلد الدب قبل اصطياده، قد ضاع، بعد أن هرب الدب بجلده، وبعد أن جرى تشويه وجه الثورة، ولم تفهم حتى الآن أن المستفيد الوحيد هو العدو الرابض على الأرض وفوق القلوب، ولم تدرك حتى الآن أن الشعب المحاصر المقهور لن يستسلم أو يصبر طويلاً على ما يجري، بعد أن ضاقت به الصدور وزاغت الأبصار في ظل استباحة دم الأبناء على أيدي الأشقاء المتصارعين!
ونحن كذلك لم نعد نطيق صبراً أمام هذه الخطايا، التي تسعى لخيانة دم الشهيد ولتشويه وجه أعظم ثورة تحرر عربية وعالمية، ولتبديد الانتفاضة الشعبية النبيلة وتحويلها إلى فلتان أمني تارة، وإلى صراع على شكل الحكومة ونوع وزارتها تارة أخرى، ولتقويض كل المبادرات الهادفة إلى تحقيق الوفاق الوطني واستعادة الوحدة الفلسطينية مرة أخرى، طريقاً نحو الدولة المستقلة ونحو استعادة القدس من غاصبيها.
لن نصبر، ونتمنى الآن أن تذهب كل هذه القيادات إلى الظل بأخطائها وخطاياها، وتترك الشعب الصامد الصابر، يفرز قيادات جديدة قادرة على إدارة دفة الصراع التاريخي مع العدو الصهيوني، بحسم وحزم، وبأمانة صرنا نفتقدها في ظلام التآمر وسراديب المناورات وساحات الفتنة الداخلية، والاقتتال الدامي الذي بات يلتهم من أرواح الفلسطينيين بمثل ما يفعل الوحش الإسرائيلي، جرياً في مضمار الشرق الأوسط الأميركي الصهيوني الجديد!
خير الكلام...
يقول أبوتمام:
لولا اشـــتعال النـــــار فيمــــا جـــاورت
ما كــــان يُعــــرفُ طــيبُ عــرفِ العـــودِ
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1517 - الثلثاء 31 أكتوبر 2006م الموافق 08 شوال 1427هـ