اشتدت الضغوط الدولية على لبنان في الأسبوع الجاري. فالدول الأعضاء في مجلس الأمن توافقت على إصدار «بيان رئاسي» يشير إلى ضرورة تنفيذ ما تبقى من بنود تتعلق بالقرار 1559. وتزامن تذكير مجلس الأمن بمسألة انتخاب رئيس جديد للجمهورية ونزع سلاح الميليشيات «اللبنانية» و «غير اللبنانية» مع تسارع موضوع تشكيل «محكمة ذات طابع دولي» لمتابعة اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.
هناك أكثر من قرار دولي صدر في السنتين الماضيتين. وكل قرار اشتمل على مجموعة نقاط لم تترك حتى التفصيلات من دون التطرق اليها. وبات لبنان الآن ساحة مفتوحة للضغوط الدولية ولم يعد بامكانه التصرف بحرية من دون العودة الى المرجعيات الكبرى التي تلاحق البنود خطوة بعد خطوة.
هذا «التدويل» للشئون اللبنانية المحلية والإقليمية وضع البلد الصغير أمام مسئوليات سياسية أكبر من حجمه. فالدولة لا تقوى على تحمل أثقالها ولا تملك الامكانات لتنفيذها حتى لو قررت الحكومة ذلك. فالرئاسة خرجت من دائرة التحكم مادام الطرف المسئول يرفض الاستقالة معتبراً انه غير معني بالأزمة على رغم أن القرار 1559 صدر بسببه. ومسألة السلاح خرجت من السيطرة في اعتبار ان الطرف المعني بالموضوع يعتبر ان وظيفة السلاح لاتزال قائمة بسبب الاحتلال الإسرائيلي واستمرار العدوان.
إلا أن «تدويل الأزمة» دخل في منعطفات كثيرة بعد قرار التمديد للرئيس إميل لحود. فالتمديد شكل حجر الزاوية الذي تأسست عليه عمارة من القرارات تتألف من طبقات عدة. وكل طبقة تتشكل من مجموعة غرف منها العلني ومنها السري. فهناك سلسلة قرارات تبدأ بالرئاسة والسلاح والتحقيق في جريمة اغتيال الحريري والجرائم التي تلته وسبقته وصولاً إلى الجنوب ومراقبة الحدود ونشر الجيش اللبناني وتعزيز القوات الدولية وغيرها من نقاط تتصل بالسيادة والاستقلال والإعمار.
الملف اللبناني كثير الأوراق. وكل ورقة كافية لاحراق غابة. لذلك تبدو الأمور كلها متجهة نحو التصادم باعتبار ان القوى المعنية بها أو المتضررة منها تعيش حالات من الانتظار والترقب. وبعض تلك القوى يمر في فترة من «النشوة» والإحساس بالقوة و «الانتصار». فالكل ينتظر والكل «منتصر» في حساباته الخاصة والوجهة التي يقرأ منها التطورات الدولية والإقليمية.
الرئيس لحود يمر كما يبدو في حال نشوة تعززها مجموعة قناعات منها أن فترة التمديد قاربت على الانتهاء ولايزال يقبع في قصر بعبدا. فهو منتصر في معنى من المعاني. وهذا كما يبدو نقطة كافية لتعزيز إحساسه بالتفوق والقدرة على الممانعة. كذلك يرى أن التمديد عزله دولياً ومحلياً ولكنه فشل في فك ارتباطه بالمؤسسات الثابتة التي تعطيه صلاحيات للتعامل مع مختلف القضايا وتمرير ما يراه مناسباً له وتعطيل ما لا يناسبه.
«الميليشيات» وغير الميليشيات ليست في موقع الضعيف. فهي ترى ان تجربة العدوان اعطتها ذاك الزخم المعنوي المطلوب ونجحت في التصدي وتقليل الخسائر السياسية وباتت في مكان قوي يعطيها الذريعة في رفض مشروع التسليم مادامت «إسرائيل» لم توقف عدوانها.
الفريق الذي يراهن على التحقيق الدولي بشأن اغتيال الحريري يجد نفسه في موقع القوي في المعادلة اللبنانية. لذلك فهو يعتبر ان الموضوع مسألة وقت وان دول مجلس الأمن عازمة على الاستمرار في الكشف عن الفاعل وجرجرته الى المحكمة الدولية. وبما أن هذا الفريق يملك الإحساس بالقوة فهو أيضاً يمر في حال «نشوة» تنتظر اللحظات للإعلان عن الانتصار.
أما الجنوب اللبناني فتبدو الأمور سائرة فيه نحو التجميد العسكري أو على الأقل تكريس أمر واقع يشبه اتفاقات الهدنة القائمة في المنطقة. وفي حال استمر الاستقرار في الجنوب تحت سقف هدنة مؤقتة فمعنى ذلك ان امكانات التوصل إلى حلول نهائية مسألة مؤجلة الى حين اتضاح معالم الصورة الإقليمية. وهذا الغموض يرسل اشارات متضاربة عن تداعيات الحرب. فهناك فريق يعتبر ان القرار 1701 فك ارتباط لبنان الإقليمي بالمشكلة مؤقتاً بانتظار ما ستكون عليه المنطقة في الفترة المقبلة. وهناك فريق يعتبر أن العدوان الأخير زاد من ارتباط لبنان بالمنطقة ورفع من مسئولياته المباشرة وغير المباشرة بسبب نجاحه في التصدي للهجمات الإسرائيلية.
كل فريق يرى الصورة من زاويته ويتعامل مع الزاوية وفق تصورات تعزز رغبته الداخلية التي تميل الى تعزيز فكرة الانتصار التي يقول بها. فالفريق الذي يقول انه انتصر على «إسرائيل» يركز على ضرورة الانتباه وتعزيز قوة السلاح لأن المعركة توقفت ولكن الحرب مستمرة. والفريق الذي يقول انه انتصر ايضاً يستند الى نتائج المعركة. فهي برأيه رسمت معادلة سياسية في الجنوب تصب في سياق مشروع يلبي حاجات اللبنانيين ومطالبتهم الدائمة بضرورة نشر الجيش وتعزيز القوات الدولية والعودة الى الخط الأزرق و «اتفاقية الهدنة».
مخاطر النشوة
النشوة والإحساس بالقوة والشعور بالعظمة والقدرة على التفوق والتقليل من قدرات الخصم كلها عناصر سلبية وتجرجر البلاد الى مخاطر كبرى لأنها في معظمها مفتعلة وغير واقعية وقائمة في النهاية على تحليلات مبنية على الفزع والخوف. فالنشوة تدفع الى الزهو والخيلاء وتعطي الانطباع بأن الخصم يخاف من تعبيراتها وصورها. ولكن الخصم الخائف يتجه بدوره الى اظهار قوته وعدم خوفه واستعداده للمغامرة والمخاطرة.
هذه الحالات يمكن ملاحظتها من خلال التعامل الداخلي مع موضوع حكومة فؤاد السنيورة. فالفريق الضاغط من أجل التوسيع والتعديل ينطلق من الإحساس بنشوة الانتصار وامتلاك القوة. والفريق المعارض خوفاً على التوازن الداخلي يظهر على الشاشة السياسية وكأنه الطرف الأقوى في المعادلة ويملك الامكانات على الرد والتصدي والممانعة. وفي الحالين يسيطر الشعور بالخوف على الإحساس بالنشوة. فالخوف هو الحقيقي بينما النشوة هي المظهر الخارجي المطلوب لتغليف حالات التوتر والقلق.
كذلك يمكن قراءة المسألة من جهة اختلاف وجهات النظر بشأن تشكيل «محكمة دولية». فكل فريق ينظر إلى الموضوع من زاوية التناقض بين الخوف من الآخر والإحساس بالنصر. فمن يتحسس من «المحكمة» يتجه نحو التصعيد الداخلي في اعتبار انه الطرف المنتصر عسكرياً ويستطيع فرض شروطه وبالتالي لا يحق للآخر إدارة الصراع وتحويل المسار من دون أخذ التعديلات، التي طرأت في موازين القوى، في الاعتبار. ومن يتحمس لـ «المحكمة» فإنه يرى ان الطرف الآخر يخاف من تشكيلها لأنه ضعيف وغير قادر على تحملها بسبب العواقب التي ستنجم عنها. وعلى أساس هذه الحسابات المحكومة بالنشوة والخوف عليها من التلاشي تتدافع القوى المحلية اللبنانية على التصعيد بناء على قراءات خاصة يعتمدها كل فريق في رؤية الآخر.
الأمر نفسه يمكن سحبه على موضوع الحوار أو الدعوة الى التشاور. فكل فريق يريدها ولا يريدها ويحمّل الآخر مسئولية فشل «اللقاء التشاوري» ظناً منه أنه يملك القوة بينما هو يخاف من قوة الآخر.
وعلى وقع هذه الأحاسيس المتنافرة أضيفت الى بنود القرارات الدولية مجموعة هواجس لبنانية أخذت تضغط بدورها على الدولة احساساً منها بأنها قادرة على منافسة دول مجلس الأمن وتشكيل نقاط اعتراض تعطل على الدول الكبرى حرية الحركة. فلبنان الآن بات في وضع تتسابق فيه القضايا المحلية مع القضايا الدولية. فهناك قرارات صدرت عن مجلس الأمن غير قابلة للتطبيق واقعياً تقابلها مطالبات تصدر تباعاً عن اطراف محلية تصطدم بممانعات تقوم على مشاعر متضاربة تجمع ما بين الإحساس بالخوف والشعور بالقوة. ولأن كل فريق يقرأ ما يريد ويتجاهل نصف الموضوع ويسقط من حساباته الموازين ويستبدلها بنزعة إرادية فإن احتمالات المواجهة باتت هي المرجحة.
الطوائف والمذاهب والمناطق تعيش كلها في حالات «سكر». والسكر عادة يشجع على المبالغة في تصور الاشياء ويعطي فاقد الوعي الاحساس بالعظمة والاستعداد للمغامرة والدخول في مشاغبات غير محسوبة تراهن على قوة تخلط بين الواقع والخيال.
نشوة السكر تسير جنباً إلى جنب مع حالات القلق والفزع والخوف التي تغلف الجميع. فمن يفقد وعيه يصاب عادة بانفصام داخلي وتضطرب شخصيته. فهو يميل الى العنف وفي الآن يبالغ في مخاوفه من الخصوم. وبسبب القلق الناجم عن التوتر الداخلي المتولد من التناقض بين الاحساس بالقوة والشعور بالخوف تتجه نشوة السكر الى التشجيع على كسر التناقض من خلال الاندفاع نحو المغامرة. فالمغامرة تعتبر من الحلول غير العقلانية التي يطمح اليها كل من يشعر بوجود خلل بين قوة مفترضة ومخاوف متوهمة.
هذا الأمر يشكل الجانب المخيف فعلاً من مسارات الأزمة اللبنانية. فالكل خائف والكل يناور والكل يتحايل ولكن الكل يعيش فترة زهو وإحساس بالقوة ويمر في نشوة الانتصار. وهذا يعني ان احتمال الدخول في المغامرة بات الأقوى في الحسابات الخاطئة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1517 - الثلثاء 31 أكتوبر 2006م الموافق 08 شوال 1427هـ