عندما دنَّسَت أحذية الجنود الأميركيين أرض العراق قالوا «احتلالاً»، ولكن عندما وَطَأت ذات الأحذية ليبيا قالوا «تحريراً»! وعندما احتشدت جيوش الأطلسي في أفغانستان قالوا «احتلالاً»، وعندما تمالأت القوات ذاتها في سورية قالوا «تحريراً». إنه زمن الشعوذة الدينية.
ليس الأمر مقتصراً على السياسيين، وبائعي صكوك الوطنية والعمالة على خلق الله، بل إن الحال قد انسحب حتى على أدعياء الدِّين والتفقه (وهو الأكثر خطورة ووبالاً). فرجل الدين، الذي يُفتي بحرمة التعامل مع الأميركي في العراق، يقول بِحلِّيَّة ذات التعامل مع الأميركي في ليبيا وسورية! ومَنْ يفتي بحِلِّيَّة التعامل مع الأميركي في العراق، يُحرِّم ذلك في ليبيا وسورية. ومَنْ يُحرِّمه في أفغانستان، يُحلِّله في إيران. إنه لأمرٌ غريب فعلاً!
كيف تُصبح مقاومة المحتل في فلسطين وأفغانستان واجبة فرض عين على المسلمين، وبأية وسيلة كانت، لكنها (أي مقاومة المحتل) تصبح في سورية وليبيا غير ذلك تماماً، بل ومَنهِيٌ عنها، لأنها خارج مصلحة البلاد والعباد، وتجلب المفسدة والفوضى!
كيف يُمكن للفتوى أن تتلوَّن بهذه الطريقة «السحرية»؟ إذا كان المحتل هو المحتل، وغايته هي غايته، والأرض هي الأرض، والظالم هو الظالم، والموضوع هو الموضوع، والضحية هي الضحية، والسَّمتُ هو السَّمت، فما عساها أن تكون حلالاً هنا وحراماً هناك؟ وإذا كان المفتِي الذي يمنح تلك المراسيم الدينية، قارئاً للقرآن، ومتفقهاً في علوم الحديث، ومُستوعِباً للغة العرب، فاعلاً ومفعولاً، ومنصوباً ومجروراً، ويفهم الناسخ والمنسوخ في القرآن ويُدرك معاني القانون وفتاوى مَنْ سبقوه، فكيف له أن يفعل هذا وهو مُتبسِّم؟ هؤلاء ليسوا رجال دين بالتأكيد. إنهم دجَّالون مستأكلون بالعلم على ظهر هذه الأمة. إنهم يقولون ما لا يفعلون، ويُضمِرون ما لا يقولون، ويفعلون ما لا يُرشِدون، ويهرِفون بما لا يعلمون، فـ «الدِّينُ لَعقٌ على ألسنتِهِم». إنهم يُمسكون الأمة من رقبتها عنوة لتغذية أهوائهم.
إنهم فقهاء «التسويغ» و «التبرير» متى ما أرادوها حراماً رفعوا كتاب الله، ومتى ما أرادوها حلالاً وضعوا كتاب الله، يُصبح هذا في أعينهم أمام هدى ونِدُّه فاجراً ظالماً، وهما في المنكر سواء، لا فرق بينهما سوى في وَصْلِهم بهؤلاء لنيل متاع قليل يرومونه لا أكثر ولا أقل.
البلاء ليس في الإفتاء وحسب، وإنما فيما يلي صكّ الفتوى. فعندما يُجَوِّز هؤلاء ويُحرِّمون للأميركي أن يأتي، أو للفرنسي أن يسرح، أو للبريطاني أن يتمركز، في العراق أو ليبيا أو سورية، فإن الحال يقتضي أن أرواحاً تُزهَق، وثروات تنهَب، وحروباً تندلع، ومجتمعات تتفكَّك، والسبب هو فتوى ممنوحة بغير حق.
نعم... إنها دكاكين «دينية» فقط. فإذا كان هناك دكانٌ للأكل، وآخر للبس، وثالث للذهب، فإن هناك دكاكين للفتوى. هذه الدكاكين، لا يقتصر كسبها على الدراهم والدنانير فقط، وإنما هي تكسب النفوذ والحظوة والقرب من السلطة، وهذا هو غايتها ومرادها.
ومادامَ الأمر لا يزيد عن دكَّان وأرفف وهَسْهَسات في الآذان، فإن ما يبيعه لهذا، قد يبيعه لذاك أيضاً، إذا كان الربح منه أجدى وأفيد. فكلما عظُم الجرم «المجاز» زاد حقه من المال والنفوذ والحظوة، لأنه لا شيء أكثر من الدين، قادرٌ على بسط الأشياء وتيسيرها.
ما الفرق بين هؤلاء، وبين مَنْ سوَّغوا للجبابرة والطغاة ظلمهم لرعيَّتهم على طول التاريخ. فقد كان الحاكم المستبد، يستقوي بأمثال هؤلاء، لفعل الفاحشة، وقول المنكر، وإعمال الظلم على الخلق، فيمنحونه ما يريد بأمر الله وتوفيقه له. إنه التاريخ وهو يعود.
عندما اعتنقت الإمبراطورية الرومانية المسيحية، نالَ الأباطرة ما نالوه من «شرعية الدِّين» على أيدي رجاله. وعندما جاء حكام ظَلَمَة جبابرة، وتكالبوا على الدولة الإسلامية، استعانوا بالجوقة ذاتها. وهكذا الحال، في الدول المتعاقبة في الشرق والغرب بالسواء.
ألَم يستخدم هتلر الدِّين والكنيسة لقتل اليهود، وغزو بولندا؟ ألَم يفعل موسوليني الأمر ذاته في إيطاليا؟ حتى جوزيف ستالين، الذين أباد الملايين، استفاد من الأمر نفسه. وفي عالمنا، ألم تستخدم الدول العربية التي حكمت ما بعد الاستعمار برجال دين «مُسوِّغين»، فجعلوهم يجثمون على صدور الناس عشرات السنين، وبلا أدنى حياء أو خجل.
أتذكر هنا ما جاء في الكامل للمبرد من حادثة تناسب ما نقول، من أن المهلَّب بن أبي صُفرة كان مشتبكاً مع أنصار أهل النهروان «الموسومين بالخوارج»، على رأس جيشٍ تابعٍ لمصعب بن الزبير. وقد جاء الخبر بمقتِلِ مُصعَب، فَعَلِمَه أنصار أهل النهروان قَبْلَ المهلَّب، فتواقفوا يوماً على الخندق، فناداهم أنصار أهل النهروان: ما تقولون في مُصعب؟ قالوا: إمام هدى. قالوا: فما تقولون في عبدالملك بن مروان؟ قالوا: ضالٌ مُضِل.
ومَرَّ يومان وبَلَغَ مقتل مُصعَبٍ جيشَ المهلَّب، واستتباب الأمر لعبدالملك بن مروان، وَوَرَدَ عليه كتاب عبدالملك بتجديد ولايته على الجيش، فلما تواقفوا «مرة أخرى» ناداهم أنصار أهل النهروان: ما تقولون في مُصعب؟ فأمسكوا عن الجواب، قالوا: فماذا تقولون في عبدالملك؟ قالوا إمام هدى! فقال أنصار أهل النهروان لهم: يا أعداء الله وعبيد الدنيا؛ بالأمس ضالٌ مُضِل، واليومَ إمام هدى؟!
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3838 - الأحد 10 مارس 2013م الموافق 27 ربيع الثاني 1434هـ
المصالح
المصالح هي التي تحرك الدول وليس المبادي خد مثال علي دلك ايران مثلا تقف الان مع النظام السوري وهو نظام يحمل افكار حزب البعث بالمقابل وقفت ضد العراق سابقا وهو يحمل نفس افكار حزب البعث تري مادا تفسر وفال احد زعماء ايران لامريكا لولا ايران مااحتليتوا العراف وافغنستان ماهو ريئك في هدا التناقض الايراني وتحياتي عروبي ناصري
مفال بوزن الذهب
انهاوثيقة تاريخيه ومنهاج عظيم ان يتمسك الفرد بمقررات دينه وهذا مانفتقده هنا وهناك فالارهابيون الذين يجب ان يقتلوا ويصلبوا هم اليوم على طاولة الحوار اليس هذا من عجائب الزمن الخوان
آخر الزمان
العلماء آخر الزمان من الطائفتين يصيبهم مرض الجهل فيفتون ويضلون الناس الجهلاء أصلا