الإنسان من دون هدف وإرادة وأحلام (يسمّيها البعض أوهاماً) لا يختلف عن أي شيء لا روح ولا تأثير له. يظل شيئاً كبقية الأشياء، وربما في التصنيف الأدنى من تلك الأشياء؛ لأنه يظل يستهلك ما هو حق لغيره من أصحاب الأهداف والإرادات والأحلام التي تبدأ بتهكّم من المحيط حولهم، بدءاً بالهواء؛ وليس انتهاء بالحيِّز الذي يشغله.

تبدأ صغيرة تلك الأحلام لتأخذ مجالها في النمو والامتداد والبروز على الأرض في شكل إنجازات لا تقتصر فوائدها عليهم؛ بل تمتد لأولئك الذين سخّفوا وخوّنوا وتهكّموا ووضعوا العراقيل والمعوّقات في الطريق كي لا ترى تلك الأهداف والإرادات والأحلام طريقها إلى النور.

كل الإنجازات الكبيرة التي صنعها الإنسان حين انخرط في الاجتماع البشري لم تأت من نزق. أتت من حاجته إلى حقه في الأحلام الصغيرة التي ستكبر مادام الهدف حاضراً وممسكاً به في حضرة إرادة لا تعرف مداهنة أو هوْلاً أو إغراء.

ما يحدث اليوم ضمن عالم ابتلينا به، هو أن الأحلام باتت خطراً على أمن منظومات سياسية ترى في ذلك تقويضاً لسلطتها «الإلهية» المزعومة، وترى فيها وقاحة وقلة أدب وانعدام تربية!

ليست الأحلام وحدها هي الخطر على أمن دول ومنظومات وحتى الجماعات والأفراد. وضوح الأهداف لأصحابها واستماتتهم في الدفاع عنها لبلوغ أشواطها؛ فضلاً عن إرادات لا يمكن لتلك الأحلام والأهداف أن تتحقق في معزل عنها، هي ما يشكّل اليوم مثلث استهداف لتلك المنظومات السياسية والسلطات المتوهمة أنها بغتْ وتجبّرت وهيمنتْ واستباحتْ ونكّلتْ بسم الله الرحمن الرحيم!

لا يمكن فصْل الأحلام عن الرئة التي تتنفس الهواء من مدى الله، ولا يمكن فصل الحق في وضوح أهداف أي منا عن حقه في جرعة الضوء والشمس كل صباح، ولا يمكن فصل واجب وقيمة أي منا في تفعيل إرادة فيه، هناك في مكان موارى؛ أو يراد له أن يكون موارى، بعيداً عن القيمة الكبرى التي من أجلها صار واحداً من سكّان هذا العالم.

لا أحد يتذكّر الذين ارتهنوا إلى أوهامهم ونومهم العميق والبليد؛ لأنه لا أثر يدل عليهم في إنجاز أو أثر أو قيمة.

التاريخ نفسه مشغول بمن يصنعون العظيم من الأثر والعميق من النتائج، والمذهل والمبهر من المحصّلات وامتدادها إلى ما بعد المحيط الذي منه بدأت، ودفع المتصدّون لها أثماناً باهظة طالت أجسادهم وإن استعصى النيل من أرواحهم. تلك مساحة لا يخترقها إلا الشبيه والرديف.

أن تحلم لا يعني إطلاقاً أن تنفصل عن الواقع من حولك. أن تتوكأ على ذلك الحلم وفي الوقت نفسه تكون مستسلماً لرداءة وصفاقة ما ومن حولك. لن يكون حلماً ذاك؛ سيكون أبسط كوابيسك وأرقّ الخسف الذي ستكون موجوداً في تفاصيله بطبيعة المقدمات التي لا يمكن أن تنفصل عن النتائج.

والأهداف هي الأخرى ليست حبْراً على ورق أي منا. ليست طفرة أو فكرة تقفز إلى الذهن، هكذا بفعل بطالة وإدمان تسويف واستساغة انتظار غبي وغير منتج. ليست لهواً نقتل به ضجراً ينتابنا ويكاد يهيمن على أرواحنا إلا قليلاً. هي التي تصنع الفارق بالسعي والحراك والسخرية من المعوقات والتشفي من الفشل. إنها العلامة التي تثبت وتؤكد مع كل إنجاز سذاجة المصادفة واستخفافها بالعقل البشري. كل شيء بمقدار وميزان وأنفاس في هذا العالم. دقيق دقة الخلق. هدف المرء أن يكون لصْقَ تلك الدّقة ومتاخماً لها. وبالعودة إلى الإرادة؛ ليست «بطّارية» تنتظر الشحن من أي جهة كانت، ولا تنتظر بطاقة تموين في العسْر واليسر كي تُبدي قدرتها المذهلة والاستثنائية على تحريك كل جامد وزحزحة كل واهم باستحالة تحريكه شبراً أو ما دونه، وليست قابلة للتفاوض على قدرتها حين تُستباح حياة وقيمة وكرامة صاحبها وعلى الهواء مباشرة في أجهزة إعلام تسوّق للنوم و«تستبدْع» الصحو واليقظة.

ليست مهرجان استعراض للإبل من «المجاهيم» و«الصُفْر» ليذهب كل صاحب فخر بما ملك إلى بيته من دون أن يتأكّد أنه موضوع الاستعراض، مع فارق أنه لا يحظى بالسحر والحضور والاهتمام الذي تحظى به بهائم الله لدى بعضهم!

المسألة بكل بساطة: حق الإنسان في الحلم وإن كان صغيراً؛ لكنه سيكبر، تماماً كما حدث في حركة التاريخ البشري وإنجازاته، حين بدأ بحلم صغير، كبُر وتتطاول وامتدّ حتى كاد أن يسدّ عين الشمس!

الحلْم: أن تكون سيِّده، والوهم أن يكون سيِّدك.