مثقفون كُثُر لم ينتظروا حراك الربيع العربي بإرهاصاته الأولى وما تمخَّض عنه لكي يباشروا دورهم من دون إملاءات وضغوط وأوامر من هنا أو هناك. باشروه (الدور)؛ لأنه جزء من رسالتهم ووجودهم وقيمتهم والمعنى الذي وُجدوا من أجله، ولا يمكن التعرُّف على ملامح من أخلاقياتهم بعيداً عن ذلك الدور، وما يرتبط به من تفاصيل. أبسط معنى للذين لا علاقة لهم بالمعرفة والثقافة أن: الحياة موقف. متى ما انتفى وذوى وتوارى وتلوّن ذلك الموقف، فلا شيء يدل على الإنسان. لا شيء يدل على أنه كان هنا. أو كان جزءاً من مخلوقات هذا الكوكب.
مثقفون آخرون ممّن لم يعرف عنهم أحد؛ ليس لأنهم غير مؤثرين أو حاضرين؛ على الأقل ضمن الدائرة والمحيط الثقافي عموماً هم هناك، وإن بدرجات ونتاجات غير صارخة في امتداد حضورها وتميّزها، كانوا في الصفوف الأولى من ذلك الحراك، وكأنهم ولدوا معه. ولدوا بالمعنى الحقيقي للولادة، وبالمعنى الحقيقي للحضور والأثر. بعض منهم ارتدَّ على أعقابه وولّى مدبراً، في ظروف لا يعجز حتى معتوه عن الوقوف على ملابساتها! بعض آخر ظل بيْن بيْن، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
صنف ثالث من أولئك، لم يرتدَّ على عقبيه، ويولِّ مدبراً فحسب؛ كأنّ بشر ذلك الربيع حفظوا له تواريه وعدم إسهامه - على أقل تقدير - في تدبيج بيانات التبرير، ونصوص المؤازرة والإكثار من: إرمِ بأبي أنت وأمي بما أوتيت من أسباب ووسائل إرسال الإنسان إلى عالم آخر، بعيداً من أحبّته والذين جاءوا إلى العالم كي يجيء!
ذلك الصنف بعضه لا أثر يدل عليه إلا من خلال مكنة متخلّفة تنتظر التشحيم كي تسترد لياقتها المُوجّهة، وإذا انتفى ذلك تدخل في تآكلها الذي لن يتعاطف معه أحد بأي حال من الأحوال، مثل تلك المكنة ترفع حظ وحضور من تشاء، وتخفض وتحطّ من قدْر من تشاء! لا قيمة يمكن أن تحتفظ بها ذاكرة المحيط الذي يتحرك فيه ذلك الصنف من الأشياء حقيقة بل هو دونها إذا تظاهرنا بإنصافنا. لا أثر يمكن الرجوع إليه، ومع ذلك صار يتصدّر المنابر والمؤتمرات والمهرجانات وحتى حفلات الختان الرسمية بمناسبة تدشين تمجيد الخراب! تكشفه إما من عدم إصدار؛ أو إصداراتٍ، مَن عمل على إخراجها وصفّها وإخراجها ونشرها سيكون شريكاً له في وزْر أو ثواب تلك التفاهة التي تتصدّر أرفف المكتبات؛ إن كان للتفاهة من ثوابّ!
بعضٌ من ذلك الصنف يكاد يحتل المشهد بجدارة وتعب وسهر. في النص هو حياة ثورة وثورة حياة، تقدمي أممي لا يؤمن بحدود تحول بين الانحياز للإنسان، ما قبل حراك الربيع العربي. له صولات وجولات فيما يعنيه ولا يعنيه؛ وأحياناً بجدارة.
بعد الربيع العربي وما تمخّض عنه لاحت وتلوح إلى اليوم عورات تتبرأ مما تم الانحياز إليه في سعة. في الضيق للأمور حسابات أخرى. ضيق بحسب السعة التي اعتادها أولئك. كل شيء صار برسْم الإدانة والتسخيف والتشكيك واختراق أكثر من طابور بعد أن كان طابوراً خامساً صار سادساً وسابعاً وألف طابور! هم أنفسهم أولئك الذين عانوا من ضيافة خاصة! وخاصة جداً لسنوات طوال. لم تكن ضيافة في مسبح ريتز كارلتون أو حتى فندق هو عبارة عن مأوى للجرذان والحشرات، عدا أن يكون مقر ضيافة لإنسان. إنسان لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يرخي هامته لأي كائن كان، طاغية أو عبد طاغية ينفذ أوامر زهْق أرواح الذين توهم أنهم عبيده ليقرر بأن موعد إرسالهم إلى الحتف قد حان؛ بل تأخر كثيراً، وكثيراً جداً. دليل إنسانية وحيوية مثل أولئك أنهم في الغصْب من الحجز والمكان. لو كانوا خلاف ذلك لكانوا في مواضع وأمكنة اللهو يستعرضون أوهامهم وابتزازهم.
ذلك ما نرمي إليه. المثقفون من شعراء»سابقين» وكتّاب «سابقين» وكتّاب قصة «سابقين» وروائيين «سابقين» وحتى بشر «سابقين»! نعم «بشر سابقون»؛ لأنه لم يعد حاضراً ما يدل على أنهم بشر، ولم يعد حاضراً ما يدل على أنهم عبروا ولو وهْماً إلى هذا العالم.
في هذه المرحلة. في هذه الجغرافية المختطفة. في هذا الزمن الذي تم استثماره في الصناديق؛ ليست السيادية التي توفر أمناً وضماناً لمستقبل قد لا يجيء أساساً؛ بل صناديق خارج الحدود تُستثمر لتقوية الذي بيده وصفة الإهانة والاستباحة والإذلال.
في هذا المرحلة طلع علينا مثقفون يقتفون الجوائز الأدبية كما يقتفي البدوي غيمة تأخر هطولها وهو بالكاد يتنفس وهْم أنها أحدثت فيضانات أغرقت وأهلكت الحرث والنسل. كان يتمنى أن يكون من ضمن الغرقى. على الأقل لديه رهافة الإحساس برحمة مكتسبة في الماء.
مثقفون أوّل ما يكشفهم أنهم وهم يدافعون عن منْهَجَة وقوننة القمع والقتل والسحل والاختطاف يلجؤون إلى منابر خارج الحدود. منابر يتوهمون ألاَّ أحد يقرؤها. الزمن تغيّر. الفضائح يمكن أن تصلك بكبسة زر. قبل سنوات كانت تصلك بالبريد المسجّل أو بلقطة بالأبيض والأسود، وتقوم الدنيا ولا تقعد. في هذا الزمن بأدواته لن تقوم الدنيا ولن تقعد فهول الدليل وهول القرائن لن تتيح له فرصة أن يقوم أو يقعد، ذلك المثقف الذي سهر على نصه لحفاوة الخارج به تبجيلاً وتعظيماً؛ فيما ينظر إلى شعبه وشعب أكثر من ربيع وسابق له قبل عقود، باعتباره فوضى الطوائف؛ وليس حراكاً. هو دليل موات وهو مشروع اختطاف مصائر الناس وقوْدهم قوداً إلى الجحيم وكأن ما يحدث من حوله ومن حولنا إسرافاً وامتداداً إلى جنان تبحث عن سكّانها ومن يملأ شاغرها!
بعد تأكيد الربيع العربي أنه ليس مزحة بطوابير من الأضاحي الذين لم يملّوا الذهاب حتى النَفَس الأخير من تحدي إهانة الإنسان واستباحة حقه، كان لصنف رخْو ومهادن وصفيق أخلاق وقيمة رأيه الذي يظنه فاصلاً وراء الحدود: لدينا فائض موت، لسنا بحاجة إلى هواة انتحار!!!
ربيع أي منا عبر حقه في الحياة من دون استعراض إهانته بات هواية انتحار!
لا أدري، هل بعد كل ذلك يمكن أن ننظر أو نتعاطى مع هواة انتحار في المواقف، مع أولئك المتواطئين، ومع الذين يفتخرون أن لديهم فائض موت على أنهم مثقفون أم مشروع خذلان لمن حولهم من البسطاء الذين توهموا ريادتهم ليجدوا أنفسهم رهْن رخاوتهم، وعلى استعداد للأخذ بيدهم إلى محرقة يقيمها متعهّد الموت والذي لا يمكن أن يشعر بحيويته ما لم يمارس انتحاراً مع كل شهيق وزفير!
بعض المثقفين تحوّلوا إلى مخبرين ويتباهون بذلك، وفي أوقات فراغهم لا بأس أن يرسموا خريطة بيت أصدقاء سابقين كي يتأدبّوا في حضرة الإهانة ووكيل الانتحار في الوقت نفسه.
من سينتصر على من في هذه المهزلة والملهاة؟ بالتأكيد لن يكون الانتحار من بين المنتصرين!
صحيح أنه ليس المثقف وحده الذي قد يتعرّض إلى رِدَّة، في أزمنة الربيع أو الخريف أو الصيف أو الشتاء الذي يناسبه كثيراً؛ إذ الانحياز إلى النوم والاستغفال والتناسي!
لا نحتاج إلى ربيع أو خريف بعد اليوم كي نكتشف الإنسان، والمثقف في نهاية المطاف بالتأكيد ليس من المعادن الصلبة وليس من الرخويات كي يكون بمنأى عمّا يدبّر له.
أيها الربيع العربي، يُراد لك أن تكون خريفاً يناسب الذين تقشعرّ جلودهم من قدرتك على تغيير الواقع المر.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3831 - الأحد 03 مارس 2013م الموافق 20 ربيع الثاني 1434هـ
القلب الحي والقلب الميت!
هؤلا لان مثقفين واحيانا يملكون شهادات دكتوراه ولكن قلوبهم غير نابض ولا يرون ابعد من انوفهم مع اعتذاري لبعض المثقفين يا اخي العزيز