العدد 3829 - الجمعة 01 مارس 2013م الموافق 18 ربيع الثاني 1434هـ

اختفاء الدابة

في الليلة التي سهرنا فيها حول جثة عابدين في ساحة المسجد الصغير، بعد أن غسلناه وطيبناه بالكافور ثم كفناه وجلسنا حوله، عرفت شكل الموت في ظاهره لأول مرة! وتيقنت من اختفاء الدابة.

أطفأنا كل القناديل لنقتصد في الضوء، فالليل مازال في أوله، أبقينا على قنديل واحد تحلقنا حوله، نحن الذين نعرف القراءة، وضعنا وسط الحلقة جزء «عم»، وبدأنا نقرأ ونتطلع للجثة الملفوفة بالكفن، وبين حين وآخر كان ينضم إلينا من سمع بخبر الوفاة، من القرى القريبة التي سمعت بحكايته. هذا الرجل الأسمر الذي جاء من الساحل الآخر، من مكان لم نسمع عنه، وقال إن اسمه عابدين، وإنه عبر المحيط من مطرح إلى بومبي، حيث عاش هناك سنوات قصيرة، أنجبت له زوجته الهندية ثلاثة أبناء، تركهم خوفاً من الدابة التي بدأت تظهر له في أزقة مدينتهم الضيقة، تظهر له وحده فقط، وتنذره بمغادرة أرض الهند، إلى حيث كان، وإلا ستصيب أبناءه بالعلل. وهكذا حلّ علينا في نهار كانت فيه عاصفة رملية غطت جبال قريتنا الصغيرة «سقر» على حدود مكران.

كان أبي عبدالله أول من ضرب بعكازه نوافذ وأبواب البيوت القريبة منادياً:

- لقد مات عابدين واختفت الدابة... لقد مات عابدين واختفت الدابة، فزعتكم يا أهل سقر.

فجاء الرجال والنوم يرافقهم، ألقوا النظرة الأخيرة على عابدين، وتساءلوا كيف مات عابدين، وهل اختفت الدابة؟ فلم يرد عليهم غير أبي عبدالله.

- كان عليه أن يموت لتختفي الدابة.

- وكيف مات؟

- شنق نفسه بإزاره.

قال أبي، فازدادت دهشتهم، حتى جاء إمام المسجد، وقال: يدفن عابدين من دون غسل أو كفن، فرفض أبي هذا الكلام، مبرراً أن موتَ عابدين إنقاذاً لحياة أهل القرية.

- أنتم تعرفون أن بقاءه حياً بقاء للدابة، التي جاءت معه من بلاد الهند، كان عليه أن يجد حلاً بعد عجزه عن مواجهتها، وعن اختفاء بعض أطفال القرية الذين أكد عابدين أن الدابة قد اختطفتهم، وأشبعت جوعها بلحمهم الطري.

- ربما أكلتهم ذئاب جائعة.

- ربما تاهوا في العراء.

- ربما خطفهم رجال «الجامدار» لبيعهم في مرفأ غوادر.

- ربما وأدهم آباؤهم أحياء، ألسن جميعهن فتيات صغار!

هنا ضرب أبي بعصاته، فهدأت الأصوات، ونظرت إليه لترى ما يقول. ولكنه نادى عليّ وترك القوم متحلقين حول جثة عابدين.

كان أبي يخطو بسرعة على رغم أنه كفيف ولكنه كان يحفظ الطريق، كنت أسير خلفه، وبين الحين والآخر كان يلتفت نحوي طالباً مني الإسراع، عبرنا بيوت القرية المتناثرة بشكل عشوائي، كان القمر بدراً، يضيء خطواتنا. كثيراً ما كنت أستغرب كيف لأعمى مثل أبي أن يحفظ طرقات قريتنا، ويسير بمثل هذه الخفة، في أرض صخرية عنيدة.

عندما بلغنا الساحة البرية الممتدة بين بيوت القرية، وساحل البحر حيث تمتد جبال متلاصقة، صلبة الحجارة، وعرة الطريق، بُنِيَّ بين صدوعها بعض البيوت الخشبية المسقوفة بسعف النخيل. كان بيت مولانا رشيد حمدان الذي أصبح الآن بيت عابدين وحيداً بين الجبال، تمتد حوله أرض صخرية صلبة تتناثر قربه كومة من الأخشاب التي تم تجميعها من الساحل القريب، وثمة نخلتين فارهتين، لفت إحداهما بأقمشة ملونة، وضعت تحتها نذور النساء، استطعت أن أميزها بسهولة، لما تشكله لنا من مرقد مقدس لمولانا رشيد حمدان، الذي يشكل مرتعاً لأطفال القرية، وهم لاهون عن تهدج أمهاتهن وأدعيتهن، وصلواتهم رجالاً ونساء.

في الجهة اليمنى من البيت كان ثمة سياج مربع زرع في وسطه بعض النباتات الصحراوية، استطعت أن أميز بينها عشبة الخبيز، والحنظل، والعوسج، والأراك الممتدة على مساحة كبيرة، تفترش الأرض، تتوزع فيه أزهار صفراء صغيرة منطفئة، وثمار صغيرة حمراء اللون. شرحت لأبي عمّا أراه، ضحك وقال:

- من هذه الأعشاب كان عابدين يطببنا، ألا تذكر حين لم أتمكن من البول، ألم يأتِ بعشبة الخبيز، فساعدني على إدرار البول بسهولة، هذا الرجل لم يكن ساحراً مثلما يقول عنه أهالي القرية، هذا عطار لديه علم واسع في فوائد بعض الأعشاب.

دخلنا البيت الذي عمل فيه عابدين خادماً لمولانا رشيد منذ قدومه إلى القرية ثم تحول إلى مسكن له بعد وفاة شيخنا الجليل. وقف أبي وسط الحوش، وتلفت كمن يعرف زواياه، طلب مني أن أحمل القنديل المعلق في الحوش على جدار البيت من الداخل، فأشعلته، ثم سألني عن الغرفة التي يطل بابها على النخلة التي ربطت فيها الأقمشة ووضعت تحتها النذور، فمسكت عصاة أبي وقدته إلى باب الغرفة، فسمى باسم الرحمن ودخل، كانت الغرفة معتمة، وليس هناك من ضوء منبعث سوى ضوء القنديل الذي كنت أحمله في يدي، طلب مني أن أفتح صندوقاً خشبياً صغيراً، وصفه فعرفته. صندوق مصنوع من خشب الساج، ومطرز بمسامير نحاسية، فتحته، فقال لي:

- هل ترى جلداً بداخله؟

- نعم، جلد يشبه جلد الحيّة.

- خذه معك، ودعنا نعود للرجال في ساحة المسجد.

- وما سر هذا الجلد؟

- ستعرف بعد قليل.

حين عدنا، كان الجمع مازال متحلقاً حول جثمان عابدين. نادى عليّ أبي:

- يا يوسف، أرهم ما بيدك.

رفعت الجلد كي يراه الرجال، فدب الفزع في نفوسهم. تهامسوا فيما بينهم باستغراب شديد، بعضهم اقترب مني بحذر ولمس الجلد، بعضهم تشممه، أما الأغلبية فقد خاف من لمسه أو حتى الاقتراب مني. قال إمام المسجد:

- إن عابدين ساحر.

فصرخ فيه أبي:

- هذا جلد الدابة.

- وكيف عرفت ذلك يا عبدالله وأنت الأعمى؟

- لقد غسلنا الرجل وكفناه، فلننتظر فجر صباح الغد لندفنه بسلام فترتاح روحه.

- ولكن كلام الإمام، أن من يزهق روحه بالباطل له عذاب جهنم.

- عابدين لم يزهق نفسه، عابدين ضحى بروحه من أجل عيالكم، الرجل قطع الطريق على الدابة كي لا تقضي على أهل القرية.

- ألم نطلب منه مغادرة قريتنا، ألم يقرر السفر إلى البحرين؟

- نعم، لكنه رفض أن ينقل معه دابة تأكل البشر.

- لتأكل أهل البحرين، أو حتى تأكله هو، فينقضي الشر عنا وعن أهلنا.

- لكنه، وضع حداً للدابة على أرض قريتنا، هذا قراره وعلينا أن نحترمه وندفنه بشكل لائق.

* مقتطع من الفصل الثاني من رواية بعنوان «القرنفل... فتنة زنجبار»

العدد 3829 - الجمعة 01 مارس 2013م الموافق 18 ربيع الثاني 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً