العدد 3829 - الجمعة 01 مارس 2013م الموافق 18 ربيع الثاني 1434هـ

مسرح البيادر: حينما تطير الدجاجة يضيع العدل

في مسرحية «الدياية طارت» بمهرجان أوال

يشتغل مخرج مسرحية «الدياية طارت» مع مجموعة ممثلي مسرح البيادر خلال مشاركتهم في مهرجان مسرح أوال السابع على توظيف حكاية من التراث الشعبي مسرحياً في تقديم نقد اجتماعي وسياسي لاذع، ولذلك وجدنا في المسرحية مجموعة الشخوص تتقافز يميناً ويساراً في تجسيد حكاية «الدياية طارت» بصورة ساخرة مضحكة وقد اتضح ذلك من خلال تمازج الألوان بالأضواء والحركات بالموسيقى التي اتشح بها العرض في شكل متسارع ومتقلب للتأكيد على الصورة الكاريكاتيرية التي ارتآها مخرج المسرحية عادل جوهر.

تتكئ مسرحية «الدياية طارت» على قصة مشهورة هي قصة القاضي والدجاجة المشوية حيث قام بدور القاضي الممثل عادل جوهر ومثل دور الخباز أحمد شريف واللذان أكلا دجاجة الممثل بسام علي في دور بوديك حيث ترك الأخير دجاجته لدى الخباز ليشويها ولكن الخباز تقاسمها مع القاضي ولما جاء بوديك يطلب الدجاجة أخبره الخباز أنها طارت كما اتفق معه القاضي، فتعارك الخباز مع صاحب الدجاجة مستنكراً تبريره أن الدجاجة تطير وخصوصاً أنه سلّمه إياها مذبوحة، فتدخل الممثل عبدالله الدرزي في دور بودنوس مطرب الحي ليفصل بينهما ففقأ الخباز عين بودنوس ثم هرب الخباز وتبعته المجموعة واكتشفنا أنه أسقط ضحية ثالثة أثناء المطاردة حين اعتلا مئذنة الجامع وسقط على رقبة أحد المصلين فانضم ولد هذا المصلي الممثل محمد الصقر للمجموعة وأمسكوا بالخباز وأخذوه للقاضي وهكذا توالت حكايات الخباز وكثر ضحاياه، فكيف سيفصل القاضي ويبرئ صديقه الخباز من التهم المتابعة. ومع تتابع الجنايات التي يقترفها الخباز تتابع حيل القاضي المنطقية والدينية في تبرئة الخباز وإدانة ضحاياه لتتحول الحقوق التي لهم في رقبة الخباز إلى حقوق عليهم، ويتحولون في نظر القاضي من شاكين ضحايا إلى مدانين لابد له أن يقتص منهم، فمادامت يا بوديك تؤمن بأن الله يحيي العظام وهي رميم فإن الله يستطيع أن يجعل الدجاجة تطير، ولذلك فأنت تدّعي على الخباز وعليك دفع عشرة دنانير لتقديمك دعوى كاذبة، وهكذا أيضاً مع بودنوس فكيف يدعي أن الخباز فقأ عينه وهي الآن في حكم غير الموجودة وليس لديه سوى عين واحدة ولذا عليه أن يفقأ عيناً واحدة للخباز وكذلك على الخباز أن يفقأ العين الأخرى المتبقية لدى بودنوس حتى تتحقق قاعدة «العين بالعين» فيطلب بودنوس التنازل ويستسلم للمنطق ولكن القاضي يلزمه بغرامة عشر ربيات لإقلاقه السلطة والقاضي، وهكذا مع الضحية الثالثة حيث يلزمه القاضي بالصعود لمنارة الجامع والسقوط على الخباز لأخذ حق والده فيخاف من تطبيق هذا الحكم ويتراجع ويتم إلزامه بالغرامة، لتنتهي المسرحية بتنازل ضحية أخرى حتى عن رفع قضيته لما رأى من انحياز القاضي للخباز في كل أحكامه، فلا يسلم الممثل صالح صقر في دور صاحب الحمار من دفع الغرامة على رغم كونه لم يرفع قضيته ولم يطالب بشيء مقابل قطع الخباز ذيل حماره، وذلك بحجة أنه دخل دار القضاء من غير حاجة وهي ليست مكاناً للفرجة ومجرد المشاهدة.

توظيف الحكاية التراثية على المنصة صيغة مسرحية شائعة تروق لكثير من المخرجين وخصوصاً حين تقديم نقد اجتماعي أو سياسي، وذلك لما لهذه الصيغة من قدرة على المواربة وفتح المجال للاختباء خلف الحكاية ليستطيع المخرج والممثلون أن يقولوا كل شيء ولكن خلف عباءة التاريخ أو التراث أو الحكاية الشعبية، هروباً من سلطة الرقابة، ولجاج المساءلة، ولعل المخرج هاهنا قد أحسن حين لجأ إلى ما يمكن تسميته بمنطقة الراحة لمناغاة الذائقة الاجتماعية، واستغلال مساحة الحرية التي تمنحها الحكاية الشعبية ليقول ما يريد بحرية ومن غير تكلف في البحث عن القالب المناسب للنقد فالحكايات لوحدها تمتلئ بالكثير من النقد الاجتماعي والسياسي اللاذع، وتقول الكثير مما نريد قوله في قالب من السخرية والضحك ولكنه ضحك كالبكاء وشيء من الكوميديا السوداء.

ولعله من طبيعة الحكاية الشعبية في بنيتها أن تختزن نقداً للطبقات الاجتماعية الأعلى منها ولذلك فإننا حين نرصد حكاية «الدياية طارت» نراها تقدم نقداً اجتماعياً وسياسياً لاذعاً لطبقة النخبة والتي تمثل السلطة السياسية والاجتماعية، وذلك من خلال دوران الحكاية كلها في دار القضاء وحول شخصية القاضي وعدم نزاهته وتزوير الأحكام لتصب كلها في صالح صديقه الخباز في كل قضية يواجهها، ولهذا اتخذ المخرج من دار القضاء فضاء مسرحياً أدار فيه معظم الأحداث.

وقد استطاع الممثلون توصيل رؤيتهم المسرحية التي تحمل رسالة نقدية لاذعة لفئتين مهمتين في المجتمع فئة النخبة المتواطئة على الظلم وفئة العامة من الناس المستغفَلين، وقد بدا ذلك واضحاً عبر تقديم المخرج نفسه عادل جوهر لشخصية القاضي مجلياً مدى انحراف القضاء واستهواء هذه الطبقة لرغباتها وصوغ الأحكام وفق المصلحة الخاصة وتوظيف المنطق المعوج بل وحتى الدين بصورة خاطئة مغلوطة لظلم الآخرين في سبيل تبرئة الخباز وإخراجه من أية قضية كالشعرة من العجين وإلصاق التهم والإدانات بخصومه لمجرد أنه صديق القاضي نفسه بل ومتمصلح منه، وكما قال وردد الممثلون في أهازيجهم «إذا حكا الشرع الكل يأكل تبن» وهذا ما يجلي النقد السياسي للسلطة القضائية، وكان كل ذلك في صورة ساخرة ولاذعة، أما الفئة الأخرى التي قدم الممثلون نقداً ساخراً لها فهي فئة العامة من الشعب المستغفلين وكأن المسرحية هنا حين تقدّم نقدها إنما تمارس فعلاً تنويرياً تبصيرياً بمدى استغفال هؤلاء لأنفسهم وإلغاء عقولهم أمام منطق القاضي واستهوائهم للأحكام الظالمة والمتعسفة التي يقدمها في حقهم، ولعلهم معذورون لكونهم بسطاء من عامة الناس، ولكن المسرحية بهذه الصورة الساخرة من هؤلاء إنما تجلي حالة الغباء السياسي والاستهواء للسلطة، وتصديق منطقها ولعله هاهنا تتحول السخرية الفاقعة إلى سخرية سوداء حين تعي عامة الناس وبسطاؤهم إلى أي مدى هم مستغفلون ومقموعون على رغم كثرة عددهم، وتتابع مشاكلهم، وكم تتجلى المفارقة حين نعرف أن سبب مشاكلهم كلها هو القاضي نفسه، فمن تقاضي حينما يكون خصمك القاضي.

وحين نتأمل مسرحية «الدياية طارت» نرها عبارة عن حكاية أساسية تتولد منها حكايات فرعية أخرى ولكنها دائماً تصب في الحكاية الكبرى وهي حكاية الخباز والقاضي والدجاجة فبنيتها أشبه بحكاية تتولد منها حكاية أخرى وتتواصل الحكايات إلى أن تصب في الحكاية الكبرى الأساسية، تماماً كما هي قصة «ألف ليلة وليلة»، وهذه عادة هي بنية الحكاية الشعبية التي تتناسل منها حكايات وحكايات وما سر هذا التعدد في الحكايات والصيغة الدائرية التي لا تنتهي إلا لكونها مستمدة من الشعب حيث التشعب والتوالد واللامتناهي، ولعله من عادة السارد الشعبي أن يعيد ويزيد في الحكاية بحسب المستمعين واستهوائهم له، فكلما قال طلبوا المزيد، وكلما قال سينتهي نراه يبدأ من جديد، ولأن الحكاية قادمة من الناس فإنهم دائماً يبحثون عن ذواتهم فيها بل ويضعون نماذج من شخوصهم البسيطة في أتونها، وما ذلك إلا لتأكيد الفكرة بأكثر من صيغة أو لربما للبحث عن مصاديق أخرى للفكرة نفسها بتعديد شخوص آخرين حدثت لهم المصائر نفسها. ولا تنتهي الحكاية من استدعاء نماذج اجتماعية متعددة مختلفة للفكرة نفسها لتأكيدها أو كما هي العادة حين سرد القصة من باب الشيء بالشيء يذكر والحكاية تأتي بحكاية الأخرى.

العدد 3829 - الجمعة 01 مارس 2013م الموافق 18 ربيع الثاني 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً