مدلولات الكلمات في حياة البشر والمجتمعات بالغة الأهمية وشديدة التعقيد. وهي من الخطورة بمكان بحيث وصفها المفكر الفرنسي جان بول سارتر بأنها - أي الكلمات - «مسدس مملوء بالرصاص». ولكن عندما تستعمل الكلمات بخفةٍ ومن دون حذرٍ فإن ذلك، كما يقول الشاعر الألماني غوته: «دليل على غياب أو فشل الأفكار». ولقد أظهر الكثيرون كيف أن الكلمات لا تستقر على حال، فتتبدّل معانيها عبر الأزمنة وتغيُّر الأحوال، بل وتتعرّض للانكسار والعفن والتشويه.
مناسبة هذه المقدّمة هي خفّة الطرح والتداول لبعض الكلمات في الساحة السياسية العربية الحالية، ومن بين أهم هذه الكلمات التي تلوكها ألسنة الساسة العرب باستمرار وتتناولها كل وسائل الإعلام العربية ليل نهار، كلمة الحوار: الحوار بين المعارضين أو الثائرين وبين أنظمة الحكم؛ بين أتباع المذهب السني وأتباع المذهب الشيعي؛ بين الثقافات والحضارات؛ بين القوميين والإسلاميين؛ بين الأقلية والأكثرية؛ بين أنظمة الحكم وبين منظمات حقوق الإنسان العالمية أو المجالس والوكالات التابعة للأمم المتحدة... وغيرها كثير.
لكننا معنيُّون في الأساس بالحوار السياسي المطروح بشكل كبير وبصوت مسموع عبر الوطن العربي كلّه بعد أن زلزل الربيع العربي الأرض ومن عليها، وفرض الحوار بين الأطراف المتنازعة كأحد أهمّ المخارج من وضع الشدّ والجذب، ومن بلادات الحياة السياسية المتخلفة التي اكتوى العرب بنارها عبر القرون.
كلمة الحوار، كونها من الكلمات التي تتغيّر بتغيُّر الألسنة التي تنطقها، لها ظلال ومسار وشروط تحتاج جميعها أن ينتبه إليها. فلنتذكر أن كلمة الحوار قد عنت في الأصل، وخصوصاً بسبب هيمنة الثقافة الشفهية، تبادلاً للآراء والأفكار بين الفلاسفة والمفكرين، ولم يكن الهدف الوصول إلى اتفاق، وإنما معرفة ومناقشة أفكار الآخرين.
إما في عصرنا، عصر الثقافة المكتوبة والمقروءة والمسموعة والمشاهدة، عصر تفجُّر وسائل التواصل الهائل، فإن جميع المتحاورين السياسيين يعرفون جيداً أفكار ومواقف الآخرين. من هنا فإن الحوار، بالمعنى الذي ذكرنا، يجب أن يكون مقدمة قصيرة وتهيئة للانتقال إلى مرحلة التفاوض الذي يعني الأخذ والعطاء، الوصول إلى حلول ونتائج، أي إنهاء الخلافات.
في الفكر السياسي، قد يقتصر الأمر على الحوار، أما في الفعل السياسي فلا يمكن الفصل بين الحوار والتفاوض والمساومات والوصول إلى اتفاق وحلول. غير أن سيرورة الحوار - التفاوض – الوصول إلى اتفاق تحتاج هي الأخرى إلى معايير تضبطها. من هذه المعايير الإجرائية المهمة القدرة على الاستماع بتركيز شديد وليس فقط القدرة على الكلام ببلاغة، ومنها إشاعة أجواء الاحترام المتبادل بتجنُّب الشطط في الاتهام واللّوم والكلمات الغامضة ذات المعاني المتعددة، والاحترام لا يعني بالضرورة موافقة الآخر. ومنها عدم التركيز الكبير على «ماذا» وذلك على حساب «كيف». إن «ماذا» تتعامل مع المواقف بينما تتوجه «كيف» إلى الحلول.
لكن أكبر وأعقد معيار تواجهه مسيرة الحوار – التفاوض هو معيار الموضوعية، إذ من دون الموضوعية الصارمة لا ينجح أي حوار، وهنا تكمن بعض الإشكالات. فالموضوعية بالنسبة للأقوياء والمهيمنين هي الرُّضوخ لمقتضيات ومحدّدات الواقع، بينما تعني الموضوعية عند من يمثّلون المهّمشين والفقراء تطبيق مبادئ العدالة والإنصاف في توزيع الثروات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وهنا يطرح السؤال المفصلي الآتي نفسه وبشدَّة: هل يستطيع أصحاب اليسر والرّفاهية والامتيازات تصوُّر أنفسهم في مكان الفقراء والمهمَّشين، الذين يتعايشون يومياً مع إذلال كرامتهم وإنسانيَّتهم من أجل لقمة العيش وأدنى أنواع الحياة؟ وإذا كانوا لا يستطيعون تصوُّر أنفسهم في تلك الأوضاع، فهل بإمكانهم التعاطف مع المطالب الحقوقية والمعيشية التي تطرح في الحوار؟ وبمعنى آخر: هل بإمكان الأقوياء الارتقاء في سلم الأخلاق والقيم والنُّبل الروحي؟
ليست هذه أسئلةً أكاديميةً عابثةً، إنها في صميم كل حوار وتفاوض سياسي، وقد نوقشت كثيراً في أدبيات السياسة. للكاتب ألبرت كامو قول معبّر: عندما تنام القدرة على التخيُّل تصبح الكلمات مفرغةً من معانيها.
عندما لا يفهم الحوار ضمن هذه المعطيات، ومعطيات كثيرة أخرى لا يسمح المجال بذكرها كلّها، يصبح كلمة كبيرة تخيف وتجلب الشقاء كما قال ستيفن بطل قصة «يوليسوس» الشهيرة للكاتب الايرلندي اللاّمع جيمس جويس. وكعادة السياسيين الانتهازيين المتحذلقين المحبيٍن للكلمات الكبيرة الرنّانة، فإنها ستستعمل من أجل ما يصفه المواطنون العاديون بالفهلوة والجمبزة والشطارة وقتل الوقت.
ومع ذلك، وعلى رغم كل ذلك، يجب العض على موضوع الحوار السياسي والسير به إلى الأمام، وعدم إعطاء الفرصة لمن لا يتنفّسون إلا الخصام والفرقة والتمزّق المفجع. ذلك، كما عبّر الكاتب توماس مان في قصة الجبل السحري فإن «الكلام، أداة الحوار، هو الحضارة نفسها، وأن الكلمات، مهما بدت متناقضة، تبقي على التواصل. أما الصمت فإنه يؤدي إلى العزلة».
ويلٌ للقوى السياسية التي تمارس العزلة عن بعضها البعض حين ترفض الحوار.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 3828 - الخميس 28 فبراير 2013م الموافق 17 ربيع الثاني 1434هـ
شكرا يا د. علي
نورتنا يا د. على و أرجو أن تأخذ جميع الأطراف بأفكارك بما يرد على المصلحه العامه للوطن
افتقدناك دكتور علي
يعطيك العافية دكتور ع المقال الطيب ... دائما انت محنك وصاحب حنكة .. اطال الله عمرك ياوزير بمعنى الكلمة
فصل الخطاب
شكرا يامهندس السياسة والكياسة د. علي فخرو على هذا التوصيف الدقيق لأسس الحوار الناجح ومقوماته وشكرا لك.
لازال البعض
الظاهر يا دكتور لازال البعض إلى الآن يفكر بموضوعية الأقوياء والمهيمينين وهو الرضوخ إلى الواقع الذي يخدم مصالحهم الشخصية فقط لا غير أم الفقير المهمش عليه أن يعيش بالأسلوب والطريقة التي يريدها القوي المهيمن. وتضل كلمة الحوار يفسرها القوي على تفسير قاموسه
قطعت قول كل خطيب
العدالة والإنصاف في توزيع الثروات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وهنا يطرح السؤال المفصلي الآتي نفسه وبشدَّة: هل يستطيع أصحاب اليسر والرّفاهية والامتيازات تصوُّر أنفسهم في مكان الفقراء والمهمَّشين، الذين يتعايشون يومياً مع إذلال كرامتهم وإنسانيَّتهم من أجل لقمة العيش وأدنى أنواع الحياة؟
باريت الحوار علي لقمة العيش طال عمرك ا
الحوار علي الحكم علي الكراسي يطول لي عمرك
ليس الحوار دواء كل داء ولاحاجة لاعادة الحقوق الا بالحوار
الحوار لامور مختلف عليها ومتفق على أهدافها ( هل يطمع المتحاورون في وطن
ينعم فيه الجميع بالامن والامان والسلامة والكرامة والعدالة والعيش السعيد ) ؟
وهل للمتحاورين الاستعداد لانكار الانا وتثبيت مصلحة الوطن واهله ؟
ترى ليس كل مختلف عليه يحتاج الى حوار لان الاختلاف احيانا نابع من رفض أحد
أطراف الحوار أوالمرشحين للدخول فيه لحقوق المقابل له في الحوار
وهل نحتاج الى تضحيات واراقة دماء وزهق ارواح حتى تعاد الحقوق لاهلها أو
ندخل في حوار بين طرفين أحدهما يطالب والاخر يرفض ؟
بارك الله فيك يادكتور وعلى قلمك الشريف
الحوار عتد هؤلاء الذين ذكرتهم وهم اصحاب اليسر والرفاهية والامتيازات هو:ان اذا انعقدت نطفة ذلك الكائن البشري المتميز والتي نطفته تختلف تماما عن النطف البشرية التي تقذف في ارحام النساء فتح له حساب بنكي ويدخل في هذا الحساب راتب شهري يفوق الخيال وما ان يخرج على الدنيا خصصت له ارض بالاف الامتار ان لم تكن بالكيلومترات ولما يبلغ الحلم واذا بقصر مشيد ينتظر ذلك الملاك السماوي بينما الفقراء والبؤساء يعيشون في تلك الخرائب والبيوتات الايلة للسقوط متكسين في تلك الغرف الضيقة
(هذه العدالة يادكتور لذا هؤلاء)