كانت المصورة الفوتوغرافية العالمية هيزيل تومبسون على موعد مع قصة امرأة مسلمة تعيش في إحدى قرى البحرين، لتقدم تجربة غنية وفريدة لسيدة استطاعت أن تتحدى الكثير من الظروف الصعبة في سبيل رعاية أسرتها... كانت الظروف شديدة وقاسية، من الإصابة بمرض جلدي نادر، إلى الوقوع في شرك أشد أورام الثدي خطورة... تعثرت حياتها... كادت تسقط... سقطت... ثم قامت... تعثرت ثم وقفت... صمدت، فسارت في حياتها قوية، وهي في العقد السادس من عمرها... تشق طريق الحياة، وقد نجحت في تربية أطفالها إلى أن كبروا... ومع أن ضيق ذات اليد يؤرق هذه العائلة الفقيرة، لكن تجربتها تستحق الإشادة كما تقول هيزيل في برنامجها العالمي الذي تبثه هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي «نساء حول العالم».

فما هي قصة هذه السيدة البحرينية؟

فجر يوم الرابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط من العام 2001 كانت السيدة القروية البحرينية البسيطة (أم جاسم) توقظ زوجها استعداداً لإيصال الأطفال إلى المدرسة... طال رقاد الزوج الذي لم يكن يصدر منه إلا زفير وشهيق متحشرج، وباءت محاولات إيقاظه بالفشل ما أدى إلى الاستنجاد ببقية أفراد الأسرة بهلع وحزن وقلق شديد للنظر في حال الوالد الذي لم يقوَ على الاستفاقة.

وحينما كان الأبناء والبنات يحاولون إيقاظ الوالد، كانت سيارة الإسعاف في طريقها إلى المنزل، لتنقل الوالد الغارق في غيبوبته إلى المستشفى وليبقى فاقد الوعي تحيطه الأجهزة الطبية من كل جانب... ذلك الوالد الذي كان يعمل موظفاً... قوياً متمتعاً بالصحة، لكن أيام الغيبوبة الثلاثة التي لم يرَ فيها زوجته وأبناءه انتهت بنقله إلى المقبرة، بعد أن أصيب بنزيف حاد في الدماغ أودى بحياته، وليبدأ فصل جديد من التحديات أمام الأم التي عاشت فصولاً من العذاب في حياتها لتصبر وتقف صامدة في وجه المستحيل متسلحة بالإيمان بالله سبحانه وتعالى ولتحتضن بقية أفراد الأسرة في حضنها الدافئ... هذه قصة فريدة لسيدة بحرينية قروية، تفخر بأن تنقل تجربتها علّ من يعشن في ظروفها ذاتها أن يستفدن منها:

مثالية أم تحتسب الأجر

بالنسبة لهذه الأم، والتي قضت على أميتها الأبجدية ببضع فصول في مدرسة ليلية لمحو الأمية، فإنها تنظر إلى الحياة بتفاؤل امتثالاً لأوامر الخالق عز وجل وسنة نبيه عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام في القيام بدورها كمربية ومعلمة ونبع من العطاء لبيتها ولمجتمعها، على أن يكون القلب الممتلئ بحب الله سبحانه وتعالى، رافداً للخير لكل الناس، فهي ترى أنها كإنسانة ملزمة بتقديم الخير على الشر، وتقديم الإحسان على الإساءة، وحتى تكون مثالية كمفردة لا تعرف معناه اللغوي، فإنها تفهم مضمونها على أنها نيل رضا الله في علاقاتها مع خلق الله.

وتعتقد محدثتنا «أم جاسم» أن من حقها المشروع أن تقدم نفسها للمجتمع الإنساني الكبير من خلال سيرتها في حياتها الأسرية والاجتماعية علها تقدم نموذجاً لأخواتها اللائي يصارعن مرارة الفقر والحرمان والمرض والجهل فتصبح «نموذج أمل في طريق مليء بالصعاب» كونها تعتقد أن تجارب الآخرين تضيء الدرب وتبث حيوية التفاؤل والأمل.

من كوخ خشبي إلى منزل صغير

عاشت تلك السيدة القروية في كنف زوج فقير، فلم يكن سوى مساعد ممرض في مركز صحي صغير، لكن العلاقة الزوجية بنيت على استشراف المستقبل بالصبر والعمل والجد وتحمل الصعاب، فأنجبت من الأبناء ثلاثة ومن البنات ثلاث، وتمر السنون، ليتغير حال الأسرة من عيش في منزل من الخشب إلى بيت جديد صغير، وليتدرج الزوج، مساعد الممرض، في العمل ولينتقل من وظيفة إلى أخرى لتحسين وضعه المعيشي والأسري، وعلى رغم صعوبة ظروف الحياة، إلا أن الإصرار على تحدي الظروف، مكن الأم والأب من رعاية أبنائهما الستة وتوفير المستوى المقبول من العيش والتعليم والرعاية، ومرت السنون حتى كبر الأبناء والبنات وتزوجوا وأنجبوا وهي اليوم تسعى لتزويج آخر أبنائها، وتتمتع الأسرة بعلاقات طيبة مع الأهل والأصدقاء والجيران.

الإصابة بأشد ورم سرطاني؟

على الرغم أن وفاة رب الأسرة كانت خسارة كبيرة للأسرة، لكنها تؤمن بقضاء الله وقدره، وأن الموت حق، وإذا كانت السنة الأولى من رحيل الوالد صعبة، لكن الأسرة تماسكت ومضت في مسيرها، إلى أن حل الموقف الأصعب والأقسى، وهو اكتشاف إصابة الأم بأشد أنواع سرطان الثدي، وبدأ فصل جديد من المعاناة، لكن الأسرة التي آلمها ما حل بالأم الحبيبة، تعلقت برحمة الله سبحانه وتعالى، وكان القرار الأصعب هو إجراء العملية للوالدة لاستئصال الثدي في ظل ظروف مادية صعبة بعد وفاة الوالد وتسديد ما عليه من ديون... اجتمع الأبناء والبنات حول الأم يشدون من أزرها وتشد من أزرهم حتى جاء موعد إجراء العملية التي تمت بنجاح ولله الحمد، وعلى رغم الظروف الصعبة التي عاشتها الأسرة بسبب صعوبة حالة الأم الصحية، والمعاناة والألم طيلة علاج الأم بالعلاج الكيماوي لأشهر طويلة، إلا أن رحمة الله شملت الأسرة وحلت المعجزة الإلهية بشفاء الأم من المرض، وكانت الصورة الأجمل هي التفاف الأهل والجيران والمعارف حول الأسرة. في عقدها السادس، أم جاسم تخطط للمساهمة في تربية أحفادها مع أبنائها وبناتها وتعليمهم ما أمكنها ذلك، لكنها تعيش في وضع معيشي صعب كون راتب التقاعد لزوجها المتوفى والذي يصل إلى 200 دينار، لا يكفي لتغطية احتياجات الأسرة المعيشية في ظل الغلاء الفاحش وارتفاع تكاليف المعيشة.

قبل السرطان... مرض جلدي نادر!

وتتمتع هذه المرأة الطيبة بطاقة من الصبر والتحمل كانت لها العون في تجاوز الكثير من المحن، وعلى أنها مرت ببعض المراحل التي كادت تحطم معنوياتها ومنها تعرضها في شبابها لمرض جلدي نادر غير بشرتها ذات اللون الأسمر إلى اللون الأبيض وكانت تشاهد حالها واللون الأبيض ينتشر مثل الخرائط إلى أن تمكن من جسمها بالكامل ولم تنفع معه العلاجات المكلفة، إلا أنها رضيت بنصيبها، وكانت قلقة من أن يؤثر المرض على علاقتها بزوجها الذي وقف معها كما أنها تأثرت بطبيعة الحال لنظرة المجتمع لها نتيجة إصابتها بالمرض، لكن ذلك لم يؤثر على اندماجها بشكل طبيعي في ممارسة حياتها الطبيعية، وكانت تواصل الدور الاجتماعي في المشاركة مع أهل القرية في الأفراح والأتراح على رغم عدم تقبل البعض لها. وكان لتميزها بالهدوء وتجربتها الغنية، عظيم الأثر في استشارتها في مواضيع كثيرة من قبل الجيران والأهل فكثيراً ما توجه المعارف لاستشارتها في الزواج أو في التدخل لإصلاح ذات البين.

حاولت أم جاسم قدر إمكانها الحفاظ على علاقاتها مع الآخرين بالصورة التي عرفت بها، وهي التجاوز والتسامح، ومع أن أم جاسم لم تحصل سوى على تعليم الكتاتيب حيث كانت تتلقى دروس حفظ وتلاوة القرآن الكريم في صغرها وهذا لم يمنحها القدر الكافي من القدرة على القراءة والكتابة، لكن نظراً لشعورها بأهمية التعليم وتشجيع الباحثات الاجتماعيات التابعات للمراكز الاجتماعية اللاتي كن يزرن النساء في القرى، فقد شعرت بحاجة ماسة للتعليم وقراءة المستقبل في حال حاجة الأبناء لأداء واجباتهم المدرسية، فقد التحقت بمدرسة مسائية لمحو الأمية إلى القدر الذي مكنها من القراءة والكتابة وأداء العمليات الحسابية البسيطة، وقراءة الصحف والمجلات أيضاً.

هذه هي قصة السيدة التي أذهلت الكثير من المشاهدين، كما أذهلت «هيزيل» ذاتها التي عاشت معها قرابة ثلاثة أيام... من الصباح إلى المساء، لتنقل صورة حقيقية لنساء عربيات لا يخضعن لقسوة الظروف.