في إحدى الليالي، صادفت صديقاً تتلوى به أزقة المحرق، ساهماً مكدوراً، يتمتم ويحرك يديه صافعاً الهواء، فتلقفته بالترحاب والسؤال، مما أبكاه وأسال دموع كلماته، راوياً مأساته، وخلاصتها أن ابنه البكر صفع باب السيارة وغادرها حانقاً، على إثر نَهْرِه إياه، ما أشعره بالإهانة، ومما زاد همه، أن أحدهم أشار عليه، بأن يضرب ابنه البالغ عشرين عاماً، و»يلعن أم جابته» وبتكسير عظامه.
استمع هذا الصديق لنصحي بأن ينتظر أيام ثلاثة، يتجرع ألمه، لنرى ضمير الابن، إلى ما يأخذه، إلا أنه أتاني صبيحة اليوم التالي، ليلخص أن ابنه قبّله على رأسه ويديه وبكى، مما أبكى الوالد أيضاً، فارتاح ضمير الاثنين. وفي تالي الأيام، غدا الابن أكرم من الأكرمين في احترام والده، ووالده صار محبّاً له أكثر مما كان. كان نصحي لصديقي، مبنيّاً على الأسباب، لا على النتيجة، الأمران اللذان تفهمهما الاثنان.
تذكرت هذه الحكاية وقد كان عمرها بعمر حراك 14 فبراير 2011، الذي كانت مسبباته، فيما خلا من سنينٍ عشر من سوء علاقة ما بين السلطات وغالبية الشعب، وتمييز السلطات ما بين الجماعات من شعبها، والخلاف على حاكمية دستور 1973 على الميثاق وليس العكس، وأن المجلس المنتخب هو المعني الوحيد بالتشريع، وتفعيل دستور 1973 بالتعديلات الواردة في الميثاق بعد التصديق عليه، وقد تم التوقيع رسميّاً عليها لتلبيتها، من ضمن تلبية مطالب ستة، طالبت بها المعارضة، بتذييل التوقيع على عبارة «مع المحبة والتقدير أضم صوتي معكم»، إلا أن دستور 2002 صدر من دون الإشارة فيه إلى أنه دستور 1973 بتعديلات بحسب ما تم التوافق عليه بوثيقة الميثاق، ومن دون الاعتداد بما وعدت السلطات كتابةً، في الوثيقة المصدِّقة على مطالب المعارضة، ومن دون الإشارة فيه، بما يفيد سريان دستور 1973، ولا إيقاف العمل به، كان ذلك بعد التصويت على الميثاق بنسبة 98.4 في المئة، الذي جاء لعبور المجتمع عبر عنق الزجاجة، إلى رحاب المملكة الدستورية الديمقراطية الموعودة على غرار الممالك الدستورية العريقة، ووعد بأن أجمل الأيام لم نعشها بعد، وذلك نتيجة إرهاصات أحداث التسعينات، التي جاءت نتيجة التراكمات، لما قبلها من سنين المعاناة التي امتدت في التاريخ إلى أغسطس/ آب 1975، تاريخ توقيف العمل بدستور 1973، وتطبيق قانون أمن الدولة سيئ الصيت... هذا الدستور الذي بدأ بتوافق السلطات والشعب عبر المجلس التأسيسي المنتخب شعبيّاً، الذي أقر نصوص الدستور بالتصويت على مواده، مادة مادة، بما في ذلك وزراء الحكومة المعينين بحكم مناصبهم، والذي أفرز المجلس الوطني باثني عشر وزيراً معينين وأيضاً بحكم مناصبهم، إلى جانب ثلاثين عضواً منتخبين انتخاباً شعبيّاً حرّاً مباشراً، من خلال ثماني دوائر انتخابية تم اعتماد ممثليها بحسب كثافة سكان كلٍ منها، فكان للمنامة 10 نواب، والمحرق 8 نواب، المنطقة الشمالية 3 نواب، ولكل من المنطقة الغربية والوسطى والرفاع وسترة 2 نواب، والمنطقة الجنوبية نائب واحد، بمجموع ثلاثين منتخبين واثني عشر معينين.
جاء الميثاق كما قرّره الشعب، على أرواح شهداء التسعينات، وثكلاها وأيتامها وجرحاها ومعتقليها، أسوةً بمثلهم أيام الستينات والسبعينات، ثم الثمانينات. هذه الحراكات، جمعت جميع مكوّنات شعب البحرين في صراعه مع السلطات، بتتالي بعضهم بعضاً، ما جعل السلطات تخشى قرب توحدهم، فعمدت إلى وسيلتين: التجنيس، والتفريق الطائفي، فخلقت لها موالين، غير آبهةٍ بما قد يصيب الوطن والمواطنين جراء ذلك، فحال أفرادها السلامة، بأحد مستجدات ثلاثة، إما استمرار التفرد بالسلطة والثروة، وإما التطاحن بين المواطنين بعضهم ببعض، نتاج ما زرعت من طائفية، وإما نزاع بين المواطنين وبين المجنّسين سياسيّاً، الذين يسهل عليهم حمل السلاح.
إلا أن الخيارين الأخيرين، مرجآن، طالما استطاعت تأجيلهما مقابل استمرار تحقق خيارها الأول، فعمدت إلى الحل الطائفي أولاً، من حيث إن مواليها المتطأفنين من جانب، ومجنّسيها سياسيّاً من الجانب الآخر، مشاركون سويّاً في الطأفنة، وطيّعون في يدها ويأتمرون بأوامرها، ومن حيث الرأي العام المحلي فلا تحتاج فيه إلى عمل الكثير، فهي لا تحتاج إليه إلا مادةً يروّجها موالوها. أما الرأي العام والرسمي إقليميّاً ودوليّاً؛ فهناك خبرة في إرهاب المعارضة، عبر تصوير ردّات الفعل المحدودة من أفراد وبأدوات بدائية، على العنف الممنهج الذي يطول الجموع والمناطق في عقاب فردي وجماعي فوري النتيجة، في القتل في الشوارع وفي المعتقلات وتحت التعذيب، ومؤجل الضرر، من الغازات، ومستمر، في الاعتقال الذي يصل إلى المؤبد.
ولكن ما غاب عن السلطات والمحسوبين عليها، من الفئتين؛ أن الشعب ما عاد يرضخ سريعاً، ولا تنفصل قيادات المعارضة عن قواعدها والعكس بسهولة، ولم تحسب حساب الجيل الجديد وإمكانياته التقنية، في التوثيق والنشر، ولم تقدر الإرث الشعبي من جيل إلى جيل، لمظالمها، حق قدره، فاقترفت أولى تجاوزاتها، اعتماداً على عقلية تخطاها الزمن والوعي الشعبي والاستعداد للتضحية من أجل الوطن، لدى جميع الأجيال، فعمدت إلى التهدئة من بعد استشهاد أول شهيدين، بوعدٍ بتشكيل لجنة وزارية لبحث الأسباب التي دعت الجموع الشعبية إلى التظاهر بهذا العدد غير المسبوق، وبسلميةٍ أبهرت السلطات ذاتها والعالم، وأعلنت يوم حداد وطني، ثم تبع ذلك تفريق المتظاهرين في دوار اللؤلؤة، لبث الرعب في قلوب المتظاهرين، فبلغ السيل الزُّبى عند الشعب، فعادت بوعدٍ آخر، وخصوصاً أنها بدأت تثقل عليها انتقادات مؤسسات حقوق الإنسان المحلية والدولية والأممية، ريثما تقرر مَن مِن رموز المعارضة لتعتقلهم، كما تعوّدت في غابر الزمان، ولم تعي بعد أن اليوم، غدا الحراك شعبيّاً وليس نخبويّاً، فتمت العودة إلى القتل والاعتقال، ثم أحكام القضاء، لتحفظ قانونية إجراءاتها أمام الجهات الدولية. واستمرت في التعاطي الأمني الممنهج للحراك، لتعود مرةً أخرى لمشروع لجنة تقصي الحقائق، الذي سلك درب الأدراج فيما يتعلق بالفعل لصالح الشعب، وما نُفِّذ منه إلا النصوص في بعض القوانين، التي لا تحترمها السلطات ذاتها، بل هي لوحة دعائية يقرأها العالم الخارجي، وحصل الشيء نفسها لتوصيات مجلس حقوق الإنسان في جنيف، وما تبعها من إجراءات حتى اليوم.
إلا أن الواضح، إن الإعداد الطائفي والنفوذ الفردي السائد على حساب المؤسسات والقانون، تسبب ربما في خروج بعضها على السلطات وأوامرها، في استخدام القوة المفرطة المؤدية للقتل ضد المتظاهرين، ونرى أن السلطات نفسها باتت تخشى معاقبة هؤلاء تجنباً لتمردهم، فجاء الإفلات من العقاب أو تخفيف العقوبة إلى أدناها.
فهل ستعي السلطات أن الأزمة، علاجها في أسبابها، وتبدأ في إخراج المتسبّبين بها من أفرادها، خارج معادلة النظام، وإبدالهم بمشاركة الشعب في السلطات، وإخضاع السلطات لمراقبة ومحاسبة الشعب، عبر انتخابه لسلطاته، وترشيد الخطاب الإعلامي الرسمي، والوقوف ضد كل من يروّج للطائفية، عبر مبدأ المواطنة المتساوية. وقبل كل ذلك، التوافق والشعب على صيغة مطوّرة للدستور، عبر مجلس تأسيسي ثم مجلس تشريعي منتخبين على غرار إقرار دستور 1973 والمجلس الوطني آنذاك، فقد كانت إجراءات تلك الفترة متقدّمةً كثيراً، وتواكب الآن، الحل الجذري للأزمة، بالأخذ في الاعتبار مستجدات العصر والمطالب الشعبية، لينعم المجتمع بالاستقرار ويتطوّر برتابة متوازنة ربما لألف سنة قادمة، أم تستمر الأزمة التي حتماً ستولد أوضاعاً صراعية ضارية، يخسر فيها الوطن بجميع مكوناته، ويفوز بها ربما الغريب.
إقرأ أيضا لـ "يعقوب سيادي"العدد 3826 - الثلثاء 26 فبراير 2013م الموافق 15 ربيع الثاني 1434هـ
الغريب
ويفوز بها ربما الغريب .. نعم أستاذ يعقوب نهاية المقال نظرة ثاقبة والخوف منها أن نخسر جميعاً نحن البحرينيين وطننا وفي النهاية يضحك علينا الغريب
والله معلم
مو عجيب أن يكون موقفك صادقا و صحيحا بعد هذا المقال الذي لخص الحدث البحريني تلخيص معلم قارئ وو متابع و فاهم ليس من أصحاب النفوس الرخيصة ،و لم يصب بالزهايمر .
عشت وعاشت البحرين حرة برجالها ونسائها الابطال
عشت ايها الرجل الحر الشريف وعاشت البحرين ورجالها امثالكم
jk
شكرا للكاتب مختصر مفيد
مقال جميل
وصف رائع وجريء لمسائل حساسة.
الخص المشكلة
المشكلة هي في انعدام الوعي لدى فئة من شعب البحرين ليس الكل ولكن الغالبية من هذه الفئة وجدت السلطة سهولة الضحك عليها وتمرير اجندتها
أفحمتنا بهذا المقال
نشكر الاستاذ الفاضل على ماذكره ومشكلة البحرين وبمرور الوقت اصبح حتى قليل الاستيعاب يفهمها جيدا بأنهاء سياسيه وليست طائفيه كما روج لهاء من قبل السلطه والمتمصلحين من ادواتهاء وطال الزمن اوقصل سوف نحصل على مطالبنا المشروعه حتى في شرع الله وليس بس في دساتير العالم.
لقد حددت المشكلة والحل
لقد اختزلت الأحداث بتسلسل تأريخي واقعي يبين حجم المشكلة والتجاوزات ووضعت الحلول الوطنية التي تتبناها المعارضة ومن ورائهم لفيف الشعب كل الشعب الطامح للكرامة والحرية. فهل من مستجيب ( اليس منكم رجل رشيد) ينقذ هذا البلد.. ودمت يابن سيادي يابن الشعب يمحبوب الجماهير على امتداد الوطن وحفظك الباري بحفظه ورحم الله والديك. وشكرا
, وبالفعل ما قلت
نعم وللااسف المستفيد الااكبر هو الغريب... رحم الله والديك علي مقالاتك الوطنية وششكرا لكم
انت رجل والرجال قليل
في زمن عزّت فيه كلمة الحق وعزّ فيه الرجال المخلصون الصادقون.
لا نرى في مقالاتك الا الحق والكلمة الصادقة والضمير الحي والشجاعة المتميزة
اين من كلامك اخوتنا الآخرون الذين يقلبون الامور والحقائق رأسا على عقب
أين اولئك المؤزمون الذين روجوا واختلقوا قضايا ليس لها اصلا ولا فصل ليتهموا بها هذا الشعب
هذه حقائق يعرفها الجميع ولكن كيف استطاع اولئك تعمية اتباعها وبيعهم عليهم بضاعة كاسدة وفاسدة وأخذها اولئك وصدّقوها وراهنوا عليها فتراهم يخرجون
ويرددون نفس الكلمات في كل مكان
ان السلطة لم تقم بما قامت به لكي تعطي للشعب حتى القليل القليل
ليس في نية السلطة اعطاء الشعب حتى القليل القليل والا لما قامت بما قامت به
هي كانت تتستطيع ان تهديء الشارع ببعض التنازلات حينها ولكنها لا تريد ان تبوح للشارع بأن له حقوق ومطالب وهذه جزء منها. بل هي تتصرف الآن لزيادة كل مظاهر الاحتقان التي اودت بالوضع الى ما حصل وهي زيادة العنصرية والتمييز والتجنيس والانتقاص من الحقوق والاستحواذ. بمعنى انها كشّرت عن انيابها
وليس لديها اي فكرة في التنازل لشعبها عن اي شيء
من الذي جاء ب 98.4%
من الذي جاء ب 98.4% التي يتفاخرون بها ليل نهار ؟ اليس هم من يضربون ويقتلون ويشتمون الآن ليل نهار ؟ فلا يتفاخرون بذلك الرقم فهم ليسوا من صنعه ، من اوجد هخذا الرقم هم شرفا الوطن المعذبين اليوم وشهدائهم ، ليرفعوا من هذا الرقم من يقولون بأنه خونة ومرتهنين للخارج وليروا الرقم الى اين سينزل به المؤشر ويعتمدوا عليه .
سؤال في محله
فهل ستعي السلطات أن الأزمة، علاجها في أسبابها، وتبدأ في إخراج المتسبّبين بها من أفرادها، خارج معادلة النظام، وإبدالهم بمشاركة الشعب في السلطات، وإخضاع السلطات لمراقبة ومحاسبة الشعب، عبر انتخابه لسلطاته.
هل يمكن للحكومة والسلطة أن تجيب على هذا التساؤل؟ هو سؤال صعب والسلطة لا تملك الإجابة عليه .
الوطن في ضياع
بارك الله فيك يا ابن الوطن الغيور ولكن بعنجهية السلطة وغرورها الوطن يحترق وهي في خسران والرابح الوحيد المجنس الذي سينهب خيرات البلد وعندما يحتدم النزاع سيفر هارباً
اقتراح
صباحك فل يا ابن البحرين البار , كلما يخطه قلمك الشاهق هو الحقيقة وتوصيفاتك دقيقة , وقوة حجتك لا تضاهى ..اتمنى ان تقبل اقتراحى المتواضع الا وهو ان تكلف نفسك وبعض من الوطنين امثالك وتجتمع بقيادات الفاتح او تدعوهم الى مجلسكم الكريم وتتفاهموا حول الوضع المأزوم فى البلاد ربما اللقاء يكون افضل ويذيب الجليد .
الشارع البحريني محتاج شخصيات مثل الكاتب يعقوب سيادي
الشارع البحريني محتاج شخصيات مثل الكاتب يعقوب سيادي. للأسف أمثاله كتموا آرائهم ولجأ الشارع إلى أمثال أعضاء تجمع الفاتح. وبعد كشف أن الفاتح لا يمثل فئة كبيرة من الشارع وله اجندات خاصة به تخلو عنهم الناس ويبحثون عن من يمثلهم. لا أعتقد أن إجتماع بين الكاتب والتجمع بيوصل إلى شيء. التجمع له اجنداته الخاصة وقالوها بكل وضوح أنهم يرفضون حكومة منتخبة
لك ما طلبت
شكراً إستاذي، ولك ما طلبت، وسأوافي الجميع بالنتائج
احبك يا وطني
كفيت و وفيت بارك الله فيك احبك يا وطني احبك::
مقال رائع
لا أعتقد أن السلطة ستستجيب لمطالب الشعب، والسبب أنها مدعومة من سلطات أكبر منها بكثير
مقال أكثر من رائع
مقالك أكثر من رائع
حيث لامس الجرح من الستينات وحيث يومنا هذا،شخصياً لا أعتقد أن