على البعد... عرفت هلال ناجي وعرفني، هو في بغداد وأنا في البحرين. يدرس هو في كلية الحقوق وأنا أكمل الصف الأول من الثانوية للالتحاق بعد ذلك بثانوية الأعظمية في بغداد، حيث كان مستوى التعليم في عام 1943 في البحرين يتوقف عند هذا الحد.
وكانت واسطة هذا التعارف هو انتساب جماعة مثقفة من العراق من المؤمنين بعروبتهم وانتمائهم القومي، وآخرون مثلهم في سورية ولبنان والأردن وفلسطين ومصر واليمن لمدرسة فكرية تتمحور حول دعوة مجلة «الأنصار» القاهرية - وصاحبها أحمد صبري - وذلك في سبيل التعارف والتآخي على مبدأ الفكرة العربية والثقافة الإسلامية، وذلك ابتداءً من صدور مجلة «الأنصار» عام 1939، والتي توقف صدورها في العام 1943، داعية جماعتها للهجرة من المدن إلى الصحراء العربية لتكوين مجتمع عربي إسلامي سليم. وكان من بين جماعة أنصار البحرين ممن جذبتهم فكرة الأنصار - على ما أذكر - إبراهيم العريض وعلي التاجر وحسن الجشي والشيخ خالد بن محمد الخليفة والشيخ دعيج بن علي الخليفة والشيخ عبدالرحمن الجودر ومطر علي مطر وفهد الظاعن وإبراهيم الصباح ومحمود قاسم وبعض قراء «الأنصار» المعجبين.
ثم تلاقينا في الأعظمية وبمعيتي أخي حسين ودعيج بن علي الخليفة كما يتلاقى الأخوان على بساط من المحبة مع الأخ هلال وحميد الضائع ونجم عبدالكريم ونخبة من أخوة العروبة في العراق على ما وصفته في كتابي «أوراق ملونة» حيث قلت في الصفحة 74: «كما يشارك شاعر الأنصار في العراق الأستاذ هلال ناجي متجاوباً مع أصدقاء الأنصار حيث يقول:
أقلّي العتاب وكفّي الملاما
وخلّي الشجون تزيد اضطراما
إلامَ السكوت وذا موطني
يسام نكالاً ويشكو الطغاما
ومن يعرب أمة للخلود
تنازعها الكيد عاماً فعاما
تقطع أوصالها بالظباة
وتأبى المقاطع فيها انفصاما
فما للشباب أطاع الخنوع
وما للكميِّ أضلّ وهاما
وما جاء بعد ذلك على الصفحة 90 قائلاً: «وممن خرج إلى البادية أيضاً من «أنصار» العراق الأديب الشاعر هلال ناجي، فارتحل إلى أطراف البادية وهو يهجو حياة المدن قائلاً:
بأرض التّأرس تذوي النفوس
وتفنى الجموع هوى وانقساما
ثم رجع منها بعد سنتين أو ثلاث ولسان حاله يقول:
أسفي على عمرٍ تقضّى نصفه
في خيبة المسعى إلى الآمال
وبنات أفكارٍ لنا عربية
رخصت لدى الأعجام وهي غوالي
وآخرها ما كتبته في وصف اجتماعاتنا ولقاءاتنا في مقهى «الرصافة» بحي السفينة بالأعظمية (ص99): «وفي أيام كهذه من الإضراب عن الأكل، كنت أخرج من القسم الداخلي (لدار المعلمين في الأعظمية) برفقة الشيخ دعيج بن علي الخليفة كعادتنا دائماً، إلى مقهى الرصافة، وننتظر في الركن المعهود فيأتي خالد الضائع ونفر من الأصدقاء. أما هلال ناجي فيأتي متأخراً بعد أن ينزع عنه الزيّ الأفرنجي ويلبس لباس أبناء العشائر العراقية، فيأخذ مكان الصّدارة متهللاً منشرحاً. وننشغل في هذه الجلسات بحديث «الأنصار» وما يرد من البحرين من أخبار الشيخ خالد بن محمد الخليفة وقصائد عبدالعزيز(بن محمد) القاضي والأخبار العامة، ثم ينبري هلال لإسماعنا من شعره الجديد وهو يلقيه مستغرقاً بحركات تعبيرية يكاد يغمض معها عينيه مبالغةً في التعبير والتأثّر، ثم يتوقف عند آخر المقطع - على هيئته من التعبير - وكأنه يقول: ما لكم لا تقولون أحسنت...؟ فنقولها ونطلب المزيد، فإذا انتهى المجلس حلف علينا بالطعام، فلا يسكن روعه ولا تهدأ أقسامه المغلّظة إلا إذا وافقناه على المسير إلى منزله القريب أو مرافقته - وهو الأغلب - إلى موضع على جانب المدخل من شارع الرشيد، حيث يأخذنا إلى دكان «ألبان» مشهور يرفدنا بالتمر والحليب واللبن ومشتقاته... فذلك هو الغذاء المثالي الذي تصفه «الأنصار» بالغذاء الكامل.
وما بين هذا وذاك من أيامٍ جميلة ومشاركات ثقافية وأدبية لا مجال للاسترسال في ذكرها في هذه العجالة. تلك إذن كانت بداية قصة لقائنا الأول وما تلاها من اللقاءات الحميمة. ثم تكرّرت بعد رجوعي من العراق مراسلاتنا ومساجلاتنا ولقاءاتنا في بغداد مرة بعد أخرى.
زرت هلال وهو على مشارف البادية العراقية حيث الريف الجميل والقلاع الموروثة، وحيث شهامة أهل العراق وكرمهم. كما زرته بعد انتقاله إلى الموصل بمعية والده المهندس ذائع الصيت، وعاشرته في مواقف الرضا والغضب، ومطارح الآمال وحسارة الخيبة في مسيرة أمتنا العربية. ولكن شمائله لم تتغير، ربما يصدق عليها قول المتنبي مع فارق الظروف:
قد زرته وسيوف الهند مغمدة
وقد نظرت إليه والسيوف دم
فكان أحسن خلق الله كلّهم
وكان أحسن ما في الأحسن الشيم
ويعبّر لنا الشاعر العربي هلال ناجي عن مشاعره العروبية في قصيدة كنا نتداولها معه حتى حفظتها عن ظهر قلب، حيث يقول:
يعاتبني خلّي ويا أفك عتبه
يقول لميس تشتكي نار هجران
فقلت لميس... ما لميس وشأنها
بلادي أهوى... أم ترى بنت شيطان
أنفت أذلّ القلب قلبي لبرزة
وهذي بلادي برزة جدّ مفتان
أنفت أرى قلبي الفتيّ ونصفه
يجور الهوى فيه وللوطن الثّاني
فعاد عذولي وهو أخيب خاسر
ترنّ بأذنيه مقالة إيماني
تعفّفت أن ألقى الحسان وأمتيّ
تضام وألهو والعداة بأوطاني
ثمّ شطّت بنا النّوى... وبقيت المودة بيننا ثابتة الأركان، وأصبح الشاعر هلال بعدها محققاً في التراث، مدققاً للمخطوطات فاق شأوه الآخرين وتفرّغ لهذه المهمة الشاقة مستهلكاً فيها طاقات جسده وبصره وفكره حتى أشرف اليوم على السبعين وما بعدها، ولكنه كان دائم الاتصال بي يرفدني بين الحين والآخر بما استجدّ لديه من كتب وتحقيقات، وأصدر إليه - على استحياء - ما صدر من كتبي ودواوين شعري.
أخذت من زاده بعض ما كتبته في صحف البحرين كهذا الذي جاء في صحيفة «الوسط» البحرانية: «...الأستاذ المحامي هلال ناجي كان زميل أيام الدراسة في الأعظمية ببغداد. بدأ شاعراً ثم انتهى محقّقاً وناشراً لمخطوطات التراث. تلطف بإهدائي الكثير مما حققه ونشره من مخطوطات التراث، ووصلت مؤلفاته في هذا المجال لأكثر من مئة وثلاثين. وقد تم مؤخراً اختياره عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق ومرشحاً أيضاً لعضوية المجمع اللغوي الليبي.
ومن بين المخطوطات التي نشرها «مختصر أمثال الشريف الرضي «، وكذلك ما كتبه لي عن نهج البلاغة: «... ثم إني علمت مما كتبه صديقي المحقق الأستاذ هلال ناجي من العراق أن لدى الأسرة الموسوية العلوية الشريفة وهم من ذرية السيد العلوي جعفر بن الإمام علي الهادي الذي أمرت السلطة العباسية بنفيه هو وأولاده وأحفاده وكل ذراريهم ونسائهم وقد جاوزوا المئة إلى بلدة حماة في سورية، وأنهم ظلّوا في منفاهم قروناً وهم الذين عرفوا فيها بـ «الشقّّاقين»، حيث يضيف هلال قائلاً : «إنّه بعد قرون عاد بعض حفدتهم إلى العراق، وأن هذه الأسرة العائدة للعراق كانت لديها مخطوطات متوارثة تجاوز الأربعمائة مخطوطة من بينها مخطوطة نفيسة للغاية من «نهج البلاغة»، كتبت في القرن الخامس الهجري وهو القرن الذي توفي الشريف الرّضي في بواكيره. وقد آلت هذه المخطوطة مع كثير غيرها - بالمصادرة - إلى دار صدام للمخطوطات وهم يعدونها ثاني أقدم نسخة في العالم...».
وأرى اليوم أنّ أمامي متسعاً للولوج في ذلك البحر الخضم من تحقيقات أخي هلال، ولكنّ الأهم من كل ذلك عندي وأنا أخط هذه السطور هو أن يبقى وجه هلال مطلاً علينا في غيابه، مشبعاً بابتسامته العذبة وفرح قلبه وصبره الدؤوب على تحقيق المخطوطات والتراث الإسلامي.
وصلني نبأ وفاة الصديق هلال ناجي... تغمده الله برحمته وهذا المقال تخليدٌ لذكراه العطرة.
إقرأ أيضا لـ "تقي محمد البحارنة"العدد 3825 - الإثنين 25 فبراير 2013م الموافق 14 ربيع الثاني 1434هـ
هلا بيك هلا
وينك استاد طولت الغيبة سنين ما قرينه لك عودة حميد ان شاء الله
شكرًا للوسط
شكرًا للوسط على هدية الصباح هذه، وشكرا للأستاذ تقي على نداوة كفه التي ما زالت تقطر حبرا أبيضا ظننت بأنني لن أرتشف من بارده منذ زمن وننتظر المزيد منك أبا أسامة