على مدى مقاليْن، تحدثتُ عن الثورات السياسية والاجتماعية. أشرت في المقالة الأولى إلى خسائر الثورات، وهل يمكن أن تتحوَّل تلك الخسائر إلى صورة «عادية» من جملة الصور التي ترافِق مسيرة الثورات «عادة»، بحيث يجوز لنا الوقوع في تكرارها كيفما اتفق؟ ثم عرضتُ إلى تجارب الثورات في العالم، سواء في فرنسا أو الصين، والظروف المريرة التي رافقتها، سواء من حيث التنكيل بجيل الحقبة المنهارة، كما حدث بالنسبة لإعدامات النورمانديين الأرستقراطيين، أو بالهندسة الاجتماعية القاسية كما في الثورة الزراعية.
وفي المقالة الثانية، تحدثتُ عن «انفلات الثورات». وقد أشرت إلى دور الإحياء الثوري الجماعي المتضامن، في توليد طاقة غير متناهية في المجتمعات، وبين الوسط الثوري، تدفع في أحيان كثيرة باتجاه التطرف، الأمر الذي يصيب الثورات في مقتل، ويردها «طفولية». وعندما يجتاح التطرف الثورات، وتنحسر أمامها الخيارات السياسية، فإنها تصاب بالانفلات والانفعال، وارتكاب ما لا يقبله العقل ولا المنطق، الأمر الذي يُؤدي بها إلى الانتحار.
اليوم، أتطرق إلى أمر لا يقلُّ أهميةً عن سابقيْه. وهو المتعلق بمشكلة «عنف الخصم وقسوته اللامتناهية» ضد حركات التغيير السياسي والاجتماعي.
وهو مبحَثٌ مهمٌ تمَّت مناقشته منذ أربعينيات القرن الماضي، كما في حالة الفيلسوفة الأميركية من أصل ألماني حنَّة أرِنْدت، وبارينجتون مور وبقية المفكرين الذي عاصروا المجتمعات التي عاشت في ظل ظروف استعمارية أو في ظل أنظمة نازية وفاشية وعسكرية، كما في ألمانيا (هتلر) وإيطاليا (موسوليني) وإسبانيا (فرانكو) بل وحتى في اليابان إبَّان حكم العسكر.
لقد ارتبط موضوع الثورات بصورة الذهنية المقابلة. ففي كل الثورات، كانت الأنظمة تتعامل مع دعوات التغيير بعقلية أمنية وتعسفية. لكن أيضاً، كانت تلك الأنظمة متفاوتةً في قمعها لتلك الدعوات التغييرية. فهناك ثوراتٌ قدّمت تضحيات لافتة لكي تنتصر، وهناك ثوراتٌ قدَّمت كلَّ شيء من أجل النصر، لكنها ورغم كل ذلك، ابتعدت أكثر عن نصرها بسبب قسوة الخصم ودمويته التي لا يتحملها قلبٌ ولا عقل.
هذه القسوة والدموية من أنظمة مُتحجِّرة، تفرض على دعاة التغيير «الاستدارة» قليلاً حقناً للدماء. وهي استدارة لا تعني أبداً الكفر بأصل التغيير، وإنما الإيمان أكثر بالتغيير وفق شروط إنسانية معقولة. إن ميزان أي تغيير ليس شيئاً قائماً على العدمية، وتقديم كل شيء من أجل شيء ما، فلا شيء يمكن أن يختزل كل شيء، سوى فرصة العمر الشاملة، التي من خلالها نصنع الأشياء أو نتلقاها أو نتفاعل معها كل بطريقته.
إن مطالب الشعوب مقدَّسة، لكن ما هو أقدس منها هو وجود مَنْ يحمل ذلك المقدس، الذي يجب ألاَّ يُصبح مُهَدَّداً في أصل وجوده. والتاريخ دوَّن لنا أمثلةً جَلِيّة لثورات اندلعت لكنها استدارت وخَفَت تحت وطأة جنون الطغيان والإفراط في القتل واستخدام البارود، وهو بالمناسبة (الهزيمة الآنية للثورات على يد أنظمة دموية) لا يُمكن تسميته نصراً أبداً، مهما كان شكل المعركة واختلاف ميزانها.
ما بين العام 1815 والعام 1848 اندلعت الثورات في عموم العالم الغربي، وبالأخص عند حوض البحر الأبيض المتوسط، لكنها أخمِدَت بقوة البارود. لقد قُمِعَت الثورات في إسبانيا وإيطاليا وألمانيا وروسيا، بعد أن استبيحت دماء المدنيين بغزارةٍ في تلك الدول وغيرها على يد الأنظمة الملكية الرجعية، التي كانت تكابد من أجل البقاء بأي ثمن، بعد أن دَخَلَت ولمدة عشرين عاماً، في قتال المد الثوري الفرنسي المنهمر على أوروبا.
وليس ببعيد عنا الثورة الإسبانية، التي تحوَّلت إلى حرب أهلية، ما بين القوميين والفاشيين بقيادة الجنرال فرانكو، من جهة، وبين الجمهوريين والطبقات العُمالية والقوى الأخرى الحليفة معها من جهةٍ أخرى، والتي تحوَّلت طيلة ثلاثة أعوام إلى صورةٍ مأساويةٍ، نتيجة الدماء المسفوكة، والأعمال الإرهابية ضد المدنيين، الأمر الذي حَتَّم على الجمهوريين الانسحاب من المعركة حقناً للدماء، بعد أن وصلت أعداد الضحايا إلى أزيد من مليون قتيل!
كذلك، تستحضر ذاكرتنا الانتفاضة التي قامت بها أربعة عشر محافظة عراقية ضد نظام صدام حسين في العام 1991 بعد تحرير دولة الكويت، والتي أطلِقَ عليها الانتفاضة الشعبانية، وما صاحبها من حملة دموية شعواء، قام بها الطيران العراقي في ذلك الأوان ضد المنتفضين، الأمر الذي جعل من كفَّتَي الصراع غير متساويتين بالمرة، وبالتالي انكفاء مناهضي الحكم البعثي، وتشتتهم في الفيافي والأهوار الجنوبية.
لذا، فإن هذا الأمر ليس شيئاً غريباً على الثورات التي حصلت وتحصل في مشارق الأرض ومغاربها، بل هي ربما تصبح المجسَّات التي بها تُعرَف عقلانية الثورات، وعدم تحوُّلها إلى «ثورات توَّابيَّة». بمعنى أن إسالة الدماء بلا حساب، ودفع الأكلاف الباهظة ليس تقليداً مُجازاً وصحيحاً إذا ما وصل إلى نخاع المجتمع، فقط لكي يُمنَح ما لدى المجتمعات صفة «الثورة»، فذلك إن حصل فهو أقرب إلى الانتحار إن لم يكن هو الجنون بذاته، خصوصاً مع أنظمة دموية قاسية لا ترحم.
لكننا أيضاً يجب أن نسجِّل أن ذات التاريخ الذي ذكَرَ لنا ذلك، ذَكَرَ لنا أيضاً أن ذلك الإخماد وتلك الاستدارة من الثورات لم تكن دائمة، إذ ما لبِثَ الحس الثوري، أن بُعِثَ من جديد، ليطيح بذات الأنظمة التي ناهضتها، وهو ما يعني، أن الخفوت لا يعني الهزيمة، ولا التنازل أو بيع الكرامة المهضومة. وما بين الاستدارة والانتحار، حديث لا يطول عن أهوال مرَّت بها البشرية، يجب أن تكون دروساً حاضرةً في أي ثورة قد تقع.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3822 - الجمعة 22 فبراير 2013م الموافق 11 ربيع الثاني 1434هـ
النيه
من 1400 سنه حاولو أقامه دوله لهم ولم يتم لهم ذلك لسوء نيتهم وعدم الثقه فيهم حتي من أقرب الناس لهم
والله يا اخ محمد مواضيعك واجد (وايد) طويلة.. واحنا ما لنا بارض لها هالايام بالذات
بس أحلى ما في مواضيعك .. ابتسامتك في الصورة .. ولك الشكر على الإبتسامة !!! الجميلة.
يمكن يصير لك بارض
إذا ما لك بارض اقرأ مجلة ماجد أو سبيستون يمكن يصير لك بارض!!!!!!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا زائر 4
والله انا بانتظرك لين ما تجيب لي وحده من المجلتين وأفضل ماجد لأنني من عام 69 انا أقراها .. سو خير وخلنا نقراها اثنينا .. مو أحسن من أخبار هالأيام والله وش رايك؟