سبق أن تناولنا التطور الدلالي بالتفصيل وذلك في سلسلتين متتاليتين نشرناها سابقاً والذي تناولنا في إحداها التطور الدلالي لأسماء الأسماك المحلية وفي الأخرى التطور الدلالي لأسماء الطيور المحلية في البحرين بصورة خاصة وفي الخليج العربي بصورة عامة. وقد تطرقنا أيضاً في تلك المواضيع للتطور الصوتي، وفي هذه السلسلة أيضاً تناولنا بعض آليات التطور الصوتي. وسنتناول في هذه السلسلة الخاصة بتطور الأفعال الرباعية في اللهجات في البحرين لآليات أخرى من التطور الصوتي، وسنخصص سلسلة مستقلة نتناول فيها التطور الصوتي في اللهجات في البحرين بصورة معمقة أكثر.
وغالبية الأفعال الرباعية في اللهجات في البحرين هي أفعال تطورت عن صورها الأصلية التي وردت في معاجم وكتب اللغة عن طريق آليات التطور الصوتي. وسنتطرق هنا لعدد من هذه الآليات وهي: المغايرة أو المخالفة، وقد سبق الحديث عنها سابقاً، والإقلاب، أي استبدال حرف بحرف آخر، والقلب المكاني، وهي عملية تغيير في ترتيب حروف الكلمة عن الصيغة المعروفة لها بواسطة تقديم وتأخير بعض الحروف. بالإضافة إلى ذلك، عملية إضافة حروف معينة على الفعل الأصلي.
الأفعال الرباعية: الصورة والمعنى
تشتمل عملية تحقيق أي لفظة، وفي حالتنا هذه الأفعال الرباعية، على عمليتين أساسيتين: تحقيق التغير في صورة اللفظة أو الفعل الرباعي، ومقارنة معنى اللفظة عند العامة بالمعنى الوارد في معاجم اللغة. وهنا يبدأ التعقيد؛ فمن السهل دراسة آلية واحدة معينة من آليات تطور اللغة ولكن تطبيقها يصبح صعباً؛ وذلك بسبب تعقيدات اللهجات المحكية الحالية فهناك نوع من التفاعل يحدث بين آليات التطور المختلفة؛ وتنتج عن ذلك ظاهرتان: المشترك اللفظي، والتطور الصوتي الدلالي المشترك.
المشترك اللفظي
يقصد بالمشترك اللفظي أن كلمة واحدة تعبر عن أكثر من معنى، وهناك العديد من النظريات حول نشأة هذه الظاهرة، ومن الآليات الغريبة المقترحة لحدوث هذه الظاهرة هو حدوث تطور صوتي لبعض الكلمات مع احتفاظها بمعانيها، ويحدث أن يؤدي التطور الصوتي لبعض الكلمات أن يجعلها تتشابه مع كلمات أخرى في الشكل لكنها تختلف عنها في المعنى (أنيس 2003، ص 170). لقد أعطى إبراهيم أنيس عدة أمثلة من اللغة العربية الفصحى، ولنأخذ هنا مثالاً من اللهجة العامية، ففي اللهجة البحرانية يسمى القصير «قرطل» و «قرطلة» وهي لفظة متطورة من اللفظ العربي «قرثل» بقلب الثاء طاء وهي بمعنى القصير. شاءت الصدف أن تكون هناك لفظة «قرطلة» في اللغة العربية الفصحى وكذلك توجد لفظة قرطلة في لهجات شرق الجزيرة العربية وغيرها من لهجات العالم العربي، ولها عدة معانٍ مختلفة، ولكن في كل لهجة لها أصل مختلف عن الآخر. فلو اكتفى المحقق بشكل الكلمة وقارنها بمعناها في اللغة ربما يستنتج آلية مختلفة لتطور هذه الكلمة؛ وعليه يجب البحث في شكل الكلمة ومعانيها. ظاهرة المشترك اللفظي معقدة من حيث النظريات والنشأة وهي حالياً خارج نطاق بحثنا حول الأفعال وربما نعود لها في فصول لاحقة.
التطور الصوتي الدلالي المشترك
يقصد بهذا النوع من التطور حدوث تطور صوتي في لفظة ما ومتزامناً معه حدوث تطور دلالي (تخصيص أو تعميم اللفظة)؛ فيمكن أن تكون لفظة واحدة تعرضت لتطور صوتي وتطور دلالي بحيث حدث لهذه اللفظة تغير كبير من حيث الشكل والمعنى ما يجعل البعض يشك في أنها متطورة من لفظ عربي. ولكي نحكم أن لفظة ما متطورة صوتياً ودلالياً بصورة مشتركة يجب أن تكون كلا اللفظتين، الأصلية والمتطورة، تستخدمان في اللهجة ذاتها وبدلالات مختلفة. وسنعطي هنا أمثلة محدودة ومرتبطة فقط بالأفعال الرباعية وكيف تطورت في اللهجة العامية. وفي هذا السياق، لم نتمكن إلا من رصد آليتين فقط من آليات التطور الصوتي والدلالي. فآلية التطور الصوتي هي التغاير أو المخالفة، وبالتحديد عملية المخالفة بحرف النون (أي تخفيف الحرف المضعف وإضافة نون). وقد سبق أن ذكرنا مدى الارتباط الشديد بين حرف النون واللهجات الحضرية التي تنتمي لها اللهجة البحرانية، فاللهجات الحضرية تحب أن تقحم هذا الحرف في العديد من التراكيب كصيغ التصغير والأسماء والأفعال وكذلك كأحد حروف المخالفة الأكثر شيوعاً، ويعتبر حرف النون الحرف الأكثر إقحاماً في التراكيب اللغوية في اللغة العربية وكذلك في اللغة السامية من مثل الآرامية والأكدية بشقيها البابلي والآشوري. يذكر أنه لا توجد دراسات ركزت على التطور الصوتي الدلالي المشترك، والدراسة الوحيدة، ربما، التي تناولت هذا النوع من التطور بشيء من التفصيل مع إعطاء أمثلة من اللهجة العامية هي دراسة رمضان عبدالتواب «التطور الصوتي والدلالي في الفصحى واللغة القرآنية»، والتي ذكر فيها أن «المحدثين من علماء اللغة يؤمنون بأن التطور الصوتي لكلمة من كلمات اللغة قد يصحبه تطور دلالي» (عبدالتواب 1993). وفيما يلي أمثلة على ذلك من اللهجة البحرانية، ويلاحظ أن بعض هذه الأمثلة موجودة كذلك في اللغة العربية الفصحى.
خفس وخنفس
تقول العامة خفس الرجل العلبة أي خسفها أو أتلفها، وأصل الخفس في اللغة بمعنى الهدم. وتقول العامة خنفس الرجل أي قطب وجهه، وأصل اللفظة من العربية من خفس، إلا أن النون أقحمت بالمخالفة وتم تخصيص اللفظة بمعنى آخر؛ أي أن هناك تطوراً صوتياً (المخالفة) وتطوراً دلالياً (التخصيص)، وهذا التطور ليس المشترك حدث منذ قديم الزمان وقد ذكر في المعاجم العربية؛ جاء في «تاج العروس» مادة (خنفس): «خَنْفَسَ الرَّجُلُ عن القَوْمِ خَنْفَسَةً، إِذا كَرِهَهُم وعَدَل عَنهُم، عن أَبِي زَيْدٍ، وكذا خَنْفَسَ عن الأَمْرِ، إِذا عَدَلَ عنه، والنُّونُ زَائِدَةٌ، ولِذا ذَكَرَ الصّاغَانِي غالِبَ هذِه المادّة في خ ف س».
فقش وفنقش
تقول العامة فقش (فگش) فلان البيض أي كسره وفنقش فلان أي مات، وأصل اللفظ في اللغة العربية فقس فلان البيض كسره وفقس فلان مات أي بالسين وبدون إقحام النون، وذكر بالشين أيضاً ولكن لا وجود للفظة فنقش وإنما هي متطورة من الأصل فقش مع تخصيصها لمعنى الموت، جاء في معجم تاج العروس (مادة فقس): «فَقَسَ الرَّجُلُ وغَيْرُه يَفْقِسُ فُقُوساً، مِن حَدِّ ضرب: ماتَ، وقيل: ماتَ فَجْأَةً. وفَقَسَ الطَّائِرُ بَيْضَه فَقْساً: كَسَرَهَا وفَضَخَهَا وأَخْرَجَ ما فِيها، أَو أفْسَدَها «.
وذكرت أيضاً بالشين أي فقش البيض «فَقَشَ البَيْضَةَ يَفْقِشُهَا فَقْشاً... أَيْ فَضَخَها، وكَسَرَها بيَدِهِ، لُغَةٌ في فَقَسَهَا» («تاج العروس»، مادة: فقش).
شتَّر وشنتر
في اللهجة البحرانية يقال: شتَّر فلان في فلان أي ذكره بسوء بمعنى جرحه باللسان، ويقال أيضاً شنتر فلانٌ فلاناً أي جرحه بأداة حادة. يذكر أن الفعل «شنتر» غير مذكور في معاجم اللغة العربية وأن أصله «شتَّر» والتي تعني التجريح باللسان أو بأداة حادة؛ جاء في معجم تاج العروس في مادة (شتر): «شَتِرَ بهِ كَفَرِحَ : سَبَّهُ وتَنَقَّصَه بنَظْم أو نَثْر. وشَتَرَه : غَتَّهُ وجَرَحَه... وفيه «شَتَّرَ بالرجلُ تَشْتِيراً: عَابَه وتَنَقَّصَه»، وفيه أيضاً «وشَتَرَ ثَوبَه: مَزَّقَه». بمعنى أن الفعل «شنتر» تطور صوتياً بإضافة النون، وتطور دلالياً بتخصيصه لعملية الجرح بأداة حادة.
طمَّ وطَمْطَمْ وطَمبل
تقول العامة طَمْطَم فلان الكأس أي ملأه (بالماء)، وأصله من طمَّ، جاء في لسان العرب مادة (طمم): «طَمَّ الماءُ يَطِمُّ طَمّاً وطُمُوماً: عَلا وغَمَر. وكلُّ ما كَثُرَ وعَلا حتى غَلَب فقد طَمَّ يطِمُّ. وطَمَّ الشيءَ يَطُمُّه طَمّاً: غَمَره». أما التعقيد الذي حل بلفظة «طمَّ» فهو تحويلها بالمخالفة إلى «طمل» بإضافة اللام، ثم أضيف حرف الباء بعد الميم فأصبحت «طمبل» ثم خصصت اللفظة لتعني ملأ البطن، فتقول العامة «طمبل بطنه ماي» أي ملأ بطنه بالماء.
العدد 3822 - الجمعة 22 فبراير 2013م الموافق 11 ربيع الثاني 1434هـ