في ختام هذه الدراسة نودّ إعادة التأكيد على ثلاثة موضوعات بالغة الأهمية بالنسبة لفكر جابر الأنصاري في الدولة المدنية، بالأحرى النظام المدني للدولة، وهي ذات صلة بالتطورات المعاصرة في المنطقة العربية الإسلامية:
الأول: نقاط التركيز لدى الأنصاري بالنسبة لمفهوم الدولة المدنية، هي أنها تعبر عن «حضارة الأصوات المتعددة»، أما الدولة الدينية خصوصاً والعقائدية عموماً، فهي تعبر عن «حضارة الصوت الواحد»، وهذا يؤدي للديكتاتورية والملك العضوض كما وصف الفقهاء حكم الدولة الأموية الذي جاء بعد انتهاء عصر الخلفاء الراشدين الأربعة.
الثاني: التفاعل بين السياسي والمفكر (المثقف)، أما الدولة الدينية فتعبر عن سيطرة السياسي على المثقف، وخضوع المثقف وثقافته للسياسي، ولهذا أشار في أحد كتبه إلى ظاهرة انتحار المثقفين، وهو انتحار أدبي معنوي، وليس انتحاراً مادياً وجسمانياً.
الثالث: مفهوم التعدد في السياسة والدين والثقافة والاقتصاد والفكر، وهو وثيق الصلة بمفهوم الحرية، أما الدولة الدينية فهي تقوم على مفهوم الوحدانية والواحدية، فهي دولة شمولية تؤمن بالفكر الواحد، والمبدأ الواحد، وما عداه فهو كفر وهرطقة وخيانة ونحو ذلك.
وهنا خلط بين مفهوم الوحدانية لله باعتباره أساس عقيدة الإسلام، وبين المظاهر السياسية والاجتماعية والثقافية بما في ذلك احترام الأديان الأخرى في الدولة، انظر في هذا المعنى في قول الله تعالى: «لكم دينكم ولي دين» (الكافرون:6).
النقد الذاتي: النقد للذات وكل ما يحيط بها أو يصدر عنها من تصرفات، وهذا النقد يعتمد على المنهج العملي والعلمي، فهو ليس نقداً هداماً ولا نقداً اعتباطياً وعشوائياً، وإنما له قواعده وأسسه، وقد ركز الأنصاري على ذلك في عدة كتب من مؤلفاته، أبرزها «الناصرية بمنظور نقدي» (2002)، «مساءلة الهزيمة» (2001)، «العرب والسياسة أين الخلل ؟» (1998).
أسباب إخفاق الناصرية
تفسير الأنصاري لأسباب إخفاق التجربة الناصرية هو عجزها عن الانتقال من فكرة التوفيق والحلول الوسط (Compromise) إلى فكرة التركيب الهيجلي (Synthesis)، وهنا تكمن في تقديري ليس فقط مشكلة الناصرية، وإنما مشكلة الفكر العربي وربما الإسلامي بأسره، وهنا يكمن أكبر نقاط ضعف الشخصية العربية، وهي العمل مثل النملة تبدأ من الصفر في كل مرحلة، غير عابئة بل أحياناً تحطم ما قبلها، ومن ثم تظل «محلك سر»، ولا يتقدم الفكر والسياسة والاقتصاد في عملية تراكمية.
وهذا بخلاف المنهج الغربي الذي يجعل المجتمع يصلح نفسه، ويتقدم بصورة مستمرة في عملية تراكمية متصاعدة.
ويخلص الأنصاري في كتابه «الناصرية بمنظور نقدي» إلى أن أهم الدروس المستفادة من التجربة الناصرية هي أنه «لا يمكن الإصلاح مع وجود الفساد»، بالطبع الفساد في عهد عبدالناصر كان محدوداً، ثم تحوّل ليصبح أسداً هصوراً في عهد حسني مبارك، ولا ندري كيف سيكون في عهد النظام السياسي لحزب العدالة والتنمية الذراع السياسي لحركة الإخوان المسلمين بعد خمس أو عشر سنوات من الآن.
الدرس الثاني إن النظام السياسي لابد أن يقوم على مؤسسات حتى لا يحدث التراجع. ولعله مما يذكر أن الدولة العربية في مختلف العهود لم تعرف ولم تطور مفهوم المؤسسات، وعندما أوجدتها كانت مؤسسات شكلية، بخلاف ما حدث في أوروبا. وهذا هو أحد ركائز الدولة المدنية، بخلاف الدولة الدينية أو النظام السياسي الاستبدادي، سواءً باسم الدين أو باسم الإيديولوجية العلمانية أو الليبرالية أو الماركسية أو القومية أو غيرها من الإيديولوجيات ذات التوجه الديني التي تعتمد على فكر المرشد أو فكر ولاية الفقيه، وهو المرجعية العليا في السياسة والاقتصاد والحرب والسلم وغير ذلك.
وهو أمر يفوق طاقة البشر ومن ثم فهو يؤدي تلقائياً إلى الاستبداد وإلى الخلط في المفاهيم وتشويهها. فلا دين بعد انتهاء عصر الأنبياء، أما خلفاؤهم فهم بشر، بل إن الأنبياء في الإسلام هم بشر، وأولهم محمد بن عبدالله بنص القرآن الكريم بقوله «قل إنما أنا بشر مثلكم» (الكهف:110)، ولم يقل أنه بشر من نوع خاص أو بشر سوبر، ومن ثم فإن عصمتهم مقيدة بما أنزله الله ولا تمتد للشئون الدنيوية.
الدرس الثالث إن الإسلام في جوهره نظام لدولة مدنية أو نظام مدني للدولة، وتكمن الاعتبارات الموضحة لهذه الخلاصة الموضوعية في أن الإسلام يقوم على تعدد الأديان في الدولة الواحدة، وعلى احترام هذا التعدد مهما كان مختلفاً «ولا تسُبُّوا الذينَ يَدْعُونَ من
دُونِ الهًِ فَيَسُبُّوا الهَب عَدْواً بغير عِلْمٍ كذلك زيَّنَّا لكلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى ربِّهِم مَّرجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بما كانوا يعملون» (الأنعام: 17).
كما أن صحيفة المدينة كانت من أقدم الوثائق الإسلامية بل الدولية، التي أكّدت على المساواة بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الأديان الأخرى، بما في ذلك المشركين في الحقوق والواجبات، وهذا تعبير عن مفهوم المواطنة في الدولة الواحدة المتساوية.
وقد قامت الممارسة العملية في صدر الإسلام على أساس احترام العادات والتقاليد والشعائر الدينية في البلاد المفتوحة، ولم يجبر المسلمون أهالي تلك البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام. وعلى سبيل المثال ظلت مصر عدة قرون ذات أغلبية قبطية. كما أن الهند مازالت ذات أغلبية هندوسية ومعابدها العملاقة قائمة، رغم حكم المغول المسلمين لها عدة قرون، كذلك إندونيسيا وغيرها.
إن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني كان يدور على الفقراء من المسلمين وغير المسلمين في المدينة، يوزّع عليهم من بيت المال الذي هو حصيلة الفيء والغنائم والخراج والجزية، ويرى أن غير المسلمين لهم حقوق في بيت المال مثل المسلمين (طه حسين، كتاب «الشيخان أبو بكر وعمر»).
ولن نتحدث تفصيلاً عن موقف أئمة الشيعة، ولكن يكفي أن نشير إلى أمرين، أولهما إن معظم الأئمة قتلوا عندما سعوا للربط بين النظام السياسي أو السلطة السياسية والسلطة الدينية، فالإثنان لا يجتمعان إلا في حالة الرسل، أو بالأحرى بعض الرسل. والثاني توجه بعض علماء الشيعة المعاصرين، وفي مقدمتهم الإمام آية الله محمد مهدي شمس الدين والإمام محمد حسين فضل الله وغيرهما، الذين أكّدوا على مدنية النظام السياسي للدولة. بل إن أكبر وأهم علماء الشيعة وصاحب المذهب الجعفري الإمام جعفر الصادق، عزف عن العمل
السياسي وتفرّغ للفقه والعلم الديني، ولذلك اقتدى به أئمة الشيعة وأئمة السنة على حدٍ سواء، وكيف لا وهو كان من أفقه علماء عصره ومن سلالة النبي الكريم (ص).
إن المسلمين من عامة الناس وبعض الفقهاء هم الذين اخترعوا مفهوم الدولة الدينية لطموحاتهم الشخصية وتأثرهم بالفكر الكنسي في العصور الوسطى. ومبدأ الاجتهاد يعني تعدد وجهات النظر حتى في الدين الواحد، وفي عصر الجمود الفكري أفتى بعض الفقهاء بإغلاق باب الاجتهاد.
إن الله سبحانه وتعالى خلق الكون بأسره على أساس مبدأ التعدد الكوني، ومن فيه من بشر وجماد وحيوانات وكائنات من سماء وأرض ونجوم وكواكب يعني رسالة واضحة، أن الكون لا يقوم على كيان واحد أو فكرة واحدة، وأن التنوع هو إثراء، والتنوع يعني الاختلاف في الجوهر، وفي الدور، وفي الكينونة (انتهى).
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3821 - الخميس 21 فبراير 2013م الموافق 10 ربيع الثاني 1434هـ