قبل أيام تحدثتُ عن الثورات الناهِضَة والناكِصَة. أشرتُ حينها إلى تجارب بعض الثورات، والأخطاء التي صاحبتها على يد ثوَّارها، وتساءلت: هل يمكننا اعتبار الخسائر الفادحة نتيجة اندلاع الثورات أمراً «عادياً» يمكن قبوله في أيِّ تجربة لاحقة باعتباره مَلمَحاً طبيعياً للثورات؟ وما هو الواجب حيالها «تصرفاً» كي لا يحدث انحراف وسقوط في المحظور؟ ثم أشرتُ إلى مدى قدرة الرأي العام على التواجد داخل تلك الثورات، كي يُحدد مسار الثورة ويُقوِّي (أو يُرخِي) من صلابة الحاضنة الشعبية والشرعية لها. اليوم، أودُّ أن أشير إلى أمر مهم، يتعلق بحالة «الانفلات»
التي تُصابُ بها الثورات على يد ثوَّارها، عند استعار الظلم، وانعدام الخيارات السياسية أمامها، فيحدث فيها الانفلات، مدفوعاً بـ «التضامن الجماعي».
إن الدراسات الاجتماعية والإنسانية، زاخرة بتجارب شعوب كثيرة، قامت فيها ثورات اجتماعية وسياسية، لكنها انفلتت بسبب سوء تصرف مشاتها على الأرض (أو من قادتها حتى)، الأمر الذي حوَّلها إلى صيغة من الفوضى والتخريب الممنهج، وانعدام الأمن الشخصي والجماعي، وتحلل وعي الأفراد وتفكك الأسر واحتراب الطوائف.
لقد ظَهَرَ التطرُّف الثوري (الديني والسياسي على حدِّ سواء) وبالتحديد في العالم الذي شَهِدَ تغيُّراً في بنيته السياسية والاجتماعية والثقافية كالمجتمع الغربي، ابتداءً من نهايات القرن الثامن عشر (وربما ما قبله حتى)، حيث شكَّل ذلك الواقع انحداراً للمفهوم الديني والسياسي على حدٍّ سواء، (وهي التجربة التي لاكتها بعد ذلك العديد من الشعوب بما فيها عالمنا العربي، بعد التحولات التي اجتاحت بنيتها).
فالظروف النفسية والسياسية التي دفعت طائفة قديسي الأيام الأخيرة المسيحية في الولايات المتحدة الأميركية لأن تحشد عشرين ألفاً من الناس في جبال الأبالاشيا للإيغال في الهستيريا الدينية بالرقص والعواء حتى السقوط على الأرض، هي ذاتها التي دفعت الثورات الاجتماعية في بريطانيا والمُشكَّلة من العُمَّال اللوديين والفقراء والكادحين «المتضامنين» لأن يقوموا بتحطيم الآلات الصناعية وتخريبها إبَّان الثورة، ظناً منهم أنها السبب في مأساتهم كعمَّال يدويين ضد أقليَّة شيطانية، لم تترك لهم خياراً سوى باستعمال المستجد من الخيارات الصناعية القائمة أو الانتحار.
وعند دراسة كل هذه الأنماط التاريخية، يظهر لنا كيف يُولد «الإحياء الثوري الجماعي» في أحيان كثيرة التطرف والانفلات حتى درجة الجنون. فهو أولاً يبدأ موتوراً من الظلم الذي تمارسه الأنظمة الرجعية الديكتاتورية، ثم يتطوَّر ذلك باتجاه التضامن الاجتماعي «النقي» الذي بدوره يُولِّد إحساساً بالقوة اللامتناهية (ولكن) غير المطابقة لميزان القوة على الأرض، كونه يعتمد أكثر من أيّ شيء آخر على جُمُوحِ المشاعر المتولِّد من دعم الناس لبعضهم في لحظة عاطفية معينة. هذا الإحياء الثوري الجماعي يدفع عادةً إلى الانفلات وعدم تقدير الأشياء، والاستغراق في مأمول الأمور ببلاهة تؤدي في أحيان كثيرة إلى الانتحار.
إذاً، فقد تتحوَّل الثورات إلى الفوضى، بسبب طغيان التطرُّف عليها، واستعار الهمجيَّة، وتسيُّد الجموح والمشاعر غير المنضبطة على العقل، وتأثير ذلك جميعاً على المسلك الثوري. وعندما تصل الثورات إلى هذه الحافة الخطيرة، تتحوَّل إلى حائط صد للقيم الصحيحة، وحِراك مسانِد للديكتاتورية القائمة، بطريقة عمودية معقوفة وبائسة، وضاغِطَة بشكل عنيف على الطبقات الدنيا بِقَاع المجتمع. وعندما تصل الأمور إلى هذا المنحدر، تبدأ الناس في القيام بثورة مضادة في دواخلها ضد ما يجري وإن بشكل مكتوم.
وإذا ما عرفنا أن هذا الأمر مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالتطرف، فإن الحال الذي يسود هو أن هذا التطرف يقتل الاعتدال والعقل. وعندما يغيب هذان الأمران، تصبح الثقافة الثورية «طفوليَّة التفكير» وفاقدة للبصر والبصيرة، ولا تتمتع بالسَنَد الشرعي أو الحواضن الاجتماعية المفترضة، الأمر الذي يُفقدها القدرة على الاستمرارية والصمود.
وجميعنا يتذكر، كيف تحوَّلت ثورة التغيير السياسي في الجزائر، بداية عقد التسعينيات من احتجاج على إلغاء نتائج الانتخابات، ثم عصيان مدني شلَّ الشوارع، إلى قتلٍ بالجنازير وحَزِّ الرقاب بالفؤوس، بعد انعدام الخيارات السياسية وتولد التطرف الديني الأرعن، الأمر الذي دَفَعَ بالناس لأن ترفض تجربة التغيير (ولازالت متأثرةً إلى هذا الأوان). وهو باعتقادي استيلاء نزق على مفاهيم القيم الثورية، من قِبَل سفهاء المجتمع وعقوله المريضة.
كذلك، فإن هذا الانفلات لا يقود فقط إلى ارتكاب أخطاء جسيمة، بإشاعته التطرُّف وقتل الاعتدال، وبالتالي غياب الآراء الأخرى، بل يمتد -كما بيَّنت التجارب- إلى انتهاج صَرَعَات سلوك غير منضبط، في ظل غياب العقل، بالتعرض لما يزيد من ضَنَك معيشة الناس اليومية، عبر إرهاقهم في معيشتهم وتفتيت الخدمات المدنية الخاصة بهم، وهي الأشياء التي يجب أن تبقى مُحيَّدة، لكي تتمكن حركات التغيير ورجالاتها من تحييد متطلبات الناس اللحظية والدائمة، وعدم تحملها، وبالتالي تحمُّل السخط الشعبي بشأنها، لكي تتفرَّغ للعمل الثوري الخالص. لذا، يصبح التصحيح واجباً هنا، مهما كانت ممانعة العقل المنفلت لها.
نعم، الظلم يُشرِّع النهوض، لكن هذا النهوض، لا يُباحُ له كل شيء. كما أن العمل الثوري يجترُّ بعضه وشرعيته لكنه لا يجترُّ أخطاءه وزلاته مهما صَغُرَ أو كَبُرَ حجمها. لأن هذه الأخطاء النابعة من التطرف، تدفع باتجاه تحقق انعدام الأمل في التغيير، في ظل أعمال لا أمل منها ولا رجاء.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3820 - الأربعاء 20 فبراير 2013م الموافق 09 ربيع الثاني 1434هـ
القيادة اولاً
في اعتقادي وجود القيادة الواعية والمخلصة هي صمام امان للثورة من الانفلات ،اما من غير قيادة فمصير الثورات الى الفشل
الثورات عمليات تصحيحية والتصحيح ليس بسهولة التخريب=سبعين عمار ما قدروا على خرّاب
لو لاحظنا المثل اعلاه لأدركنا مدى صعوبة الاصلاح والثورات عمليات تصحيحية والتصحيح عملية صعب ليست بسهولة التخريب خاصة وان من المخربين يريدون البقاء على الفساد التي يعتاشون عليه.
اذا فكل مسار التصحيح صعب وشاق ويحتاج الى جهود وصبر ومثابرة هذا عدى ان المخربين لا يتركون قطار التصحيح يسير كما يجب فلا بد ان يحاولوا حرف القطار عن مساره.
الأكثر هو وجود فئة المنتفعين الذي يحاولون القفز على الجميع سواء في الاصلاح او الافساد تجدهم في المقدمة يستغلون الوضع
بدون عنوان
اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب
لماذا لا تريد أن تستمع فتكون حكيما على الأقل
الكلام من اختصاص المعرفة أما الاستماع فهو من امتياز الحكمة . هولمز
طبيعي
كل الثورات تخطيء
الخطأ ليس حجة
خطأ الثورات ليس حجة علينا وإنما صوابها وانطلاقها ومواجهتها للظلم هو الأولى بأن يتبع وإلا لارتكبنا خطايا كل شيء من بعضنا البعض
تحية الصباح
يعجبني في تحليلاتك أنك متعمق وتشبع الفكرة وتطرق المحظور . شكرا عزيزي
nice
nice artical