الدولة المدنية في فكر الأنصاري تعتمد على الأسس التالية: المنهج النقدي للحياة والسياسة والمجتمع والأحداث؛ الايمان بالتطور والتقدم الإنساني؛ النظرة الواقعية للحياة وليست المثالية الحالمة، ولا الاستسلامية الخانعة، حيث نظر الأنصاري للسعودية كدولة اتحادية، وللإمارات كذلك، وان اختلفت الأساليب في الحالتين باختلاف الزمن والظروف والمستجدات، ومن ثم رفض مفهوم حرق مراحل التطور، وأدرك بعين ثاقبة كيف يحدث التطور في المنطقة العربية ذات الطبيعة القبلية التي بعد أن وحدها الإسلام عادت قبائل ومناطق ودويلات؛ الإيمان بالتراث والدين كقيم وكمبادئ فيما يتعلق بالنظام السياسي للمجتمع أما الشعائر فهي تخص الفرد.
هنا نجد الأنصاري يقبل الدولة المدنية ويرفض الدولة الدينية اللاهوتية الثيولوجية. التطور المستمر كما في كتابه «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، والبعد الوطني في تعبيره عن البحرين ونظامها السياسي، وهذا البعد يثير إشكالية علاقة المثقف بالحاكم، فلا هو داعية ومروج إعلامي له، ولا هو معارض ومناهض له لمجرد المعارضة. لقد عرف التاريخ الإسلامي نماذج عديدة من هؤلاء المثقفين، وقد اختار الأنصاري موقفاً وسطاً، ولعل هذه الوسطية هي من سمات الإسلام، وهي من سمات المثقف، فالمثقف الحق هو داعية فكر، وليس باحثاً عن منصب أو شهرة. هو معبّر عن رأي موضوعي ذاتي وليس عن موقف حكومة، إنه ناصح للحاكم وليس جزءًا من الإدارة التنفيذية التابعة له.
وينبغي أن نشير إلى أن الدولة المدنية في أوروبا لا تعرف الانحرافات التي يعيشها من ينتسبون للفكر المدني في المجتمعات العربية، هم إما ضد الحاكم ومع المعارضة، وهؤلاء هم الأغلب، وإما مع الحاكم مرددين أطروحاته تفسيراً وتبريراً، وبين الفريقين خصام، واتهامات متبادلة، بالموالاة والمعارضة، وأحياناً يتم تبادل المواقع مع تغير الحكام، وللأسف تقع بعض الفرق والأحزاب الدينية فريسة لذلك، ابتداء من سلوك المعتزلة مع الخليفة المأمون عندما اهتم بهم ومنحهم سلطات واسعة، فاضطهدوا معارضيهم، رغم أنهم دعاة العقل والحرية قبل أن يصلوا للسلطة. كذلك واضح من سلوك الأحزاب الدينية المعاصرة. عندما وصل الخميني للسلطة أعدم الكثير من المعارضين، وعندما وصل الإخوان المسلمين للسلطة في فلسطين (غزة) تشاحنوا مع شركائهم من فتح، بينما النبي (ص) عندما فتح مكة قال لخصومه وأعدائه «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وقال القرآن «ولْيَعفُوا وليصفَحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ» (النور: 22). ومبدأ العفو عند المقدرة من المبادئ الإسلامية الجليلة. أما المسلمون المعاصرون فقد كرّروا ذلك في الخطب المنبرية وفعلوا عكسه في سلوكهم اليومي، وخصوصاً عندما يصلون للسلطة، ولم يدركوا أن السلطة لها ضوابطها والتزاماتها، ولكن هذا يجب أن يكون باسم السلطة وليس باسم الدين. لماذا يطلق زعيم ديني مقوله ان الإسلام يمنع إنتاج السلاح النووي، بينما مبادئ الإسلام تقول بالعكس «وأَعِدُّوا لَهُمْ ما استطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة ومن رِبَاط الخَيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ « (الأنفال: 60). ولماذا الزج بالإسلام في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا وشئوننا الدنيوية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. ان الإسلام دين شامل للدين والدنيا، ولكنه في الكليات وليس في التفاصيل والجزئيات، وهذا سر عظمة الإسلام وسر بؤس المسلمين. إننا حشرنا الإسلام في أدق التفاصيل.
ويقدم لنا الأنصاري رؤيته للدولة المدنية في كتابه «رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية»، فقد أوضح أن الفكر الإسلامي لابد أن يحدّد موقفه من القضايا الجوهرية في الفكر العالمي
وأهمها: قضية العقل ومكانته، إذ يعتمد الإسلام على مقومات ثلاثة هي:
الوحي، الإيمان بالغيب، والعقل الذي أشار إليه في آيات عديدة. ثم قضية العلم حيث أكّد الإسلام على العلوم التجريبية وتناولت الآيات القرآنية الظواهر الكونية والدعوة للتفكر في آيات كثيرة. بالإضافة إلى ارتباط الإسلام الوثيق بالمفهوم القومي، فالقومية ظاهرة فطرية واجتماعية وتاريخية وعظمٌها القرآن بقوله تعالى: «ومن آياتِهِ خَلقُ السَّماواتِ والأَرضِ واختلافُ أَلسِنَتِكُم وأَلوانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلعالِمِينَ» (الروم: 22).
ويطرح الأنصاري حدود التفسير والفهم للفقه الإسلامي الذي هو من صنع البشر، ومن ثم فهو يرتبط بالزمان والمكان. ولذلك رفض الإمام مالك (فقيه المدينة
المنورة) طلب الخليفة العباسي المنصور بتعميم كتابه «الموطأ» وفرضه على جميع البلاد الإسلامية. كما أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي غيّر من فتاواه في العراق عندما ذهب للإقامة في مصر ووجد بيئة مختلفة.
ويشير إلى الارتباط الوثيق بين الإسلام والعروبة بدلالة قوله تعالى «إِنَّا أَنزلناهُ قُرآناً عربِيًّا لعلَّكُم تعقِلُون» (يوسف: 12)، فالقرآن عربي و «النبي عربي». وباختصار الإسلام ليس ضد العروبة أي ليس ضد القومية، ولذلك قال الأنصاري مؤكداً مبدأ «لا إسلام بدون عروبة ولا عروبة بدون إسلام». وهو يرى أن الإمام محمد عبده كان رائداً للقومية العربية، وعبر عن ذلك في كتابه «الإسلام بين العلم والمدنية»، وكان ضد هيمنة الدولة العثمانية بخلاف أستاذه جمال الدين الأفغاني وبخلاف تلميذه محمد رشيد رضا.
المثلث الحتمي للنهضة
إن هذا المثلث يشمل الإسلام والعروبة والعصر، وهي الأعمدة الثلاثة للنهضة، ويرى إمكانية الأخذ بحضارة الغرب، أي التكنولوجيا دون الأخذ بثقافته كلياً أو جزئياً، وهذا ما حدث في الصين والهند واليابان. فالثقافة إرث ذو طابع قومي في حين الحضارة إرث ذو طابع إنساني. وبناء على ذلك فالدولة المدنية لابد أن تقوم على نقد الذات وإصلاح عيوبها قبل نقدها للآخر، وهذا ما فعله الغرب منذ عقود فكتب مفكرون عن تدهور الغرب وتحلل الحضارة الغربية، وهذا هو ما أنقذها ودفعها لإصلاح ذاتها وتطوير مقوماتها، أما الحضارة الإسلامية فقد تدهورت عملاً، ونحن نعيش في وهم «العصر الذهبي المفقود» الذي نتباكى عليه ونحلم بعودته في حين أن قوة الحضارة الإسلامية كانت في الانفتاح الفكري كما حدث في عصر المأمون، حيث تمت ترجمة آداب وفكر الفرس والروم واليونان والهند وغيرهم.
إن الإيمان بالحرية المدنية واضح في العديد من الآيات، لكن سلوك المسلمين اختلف تماماً وابتكر الفقهاء المحافظون مفاهيم جديدة تتعلق بالردة والجزية والجهاد ودار الحرب ودار الإسلام ونحو ذلك، ويرجع الفضل للإمام محمد عبده ورشيد رضا بوجه خاص في إدخال عدة مبادئ لتحديث الفقه الإسلامي، رغم أن رشيد رضا ينتمي للجناح المحافظ المتأثر بأفكار ابن تيمية.
ومن الأفكار التجديدية التي أدخلها رشيد رضا، مبدأ تقديم المصلحة العامة في التشريع، ومبدأ اختلاف التشريع حسب ظروف واحتياجات المجتمع، وأن الضرورات تبيح المحظورات، والإفتاء بعدم جواز قتل المرتد عن الإسلام إلا إذا كان يمثل خطراً على وحدة الأمة، أما إذا كان ارتداده أمراً شخصياً فإنه يقع في إطار الحرية الدينية. ومبدأ أن الجهاد عمل دفاعي عن الأرض الإسلامية (مع مراعاة مفهوم القومية والدولة)، ومبدأ نشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة...
هذه المبادئ جميعاً موجودة في القرآن الكريم ولكن المسلمين نسوها أو تناسوها عبر الزمن حيث ساد الفقه المتشدد.
إعادة التأكيد على مبدأ العدل استناداً لما ذكره ابن تيمية رغم انه من المتشددين، ولكن العدل هو المبدأ الحاكم في الحضارة الإسلامية والعقيدة الإسلامية، وهو مبدأ مطلق ويرتبط في المقام الأول بالقضاء، إعمالاً لقوله تعالى «إِنَّ اللهَ يأمُرُكُم أَن تؤذوا الأماناتِ إِلى أَهلِها وإِذا حكمتُم بين النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعدلِ» (النساء: 58). «ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَومٍ على أَلاَّ تَعدِلُواْ اعْدِلُوا هُو أَقْربُ لِلتَّقْوى...» (المائدة: 8). والعدل ينصرف لجميع البشر، وليس إلى المسلمين فقط، وعلى الأعداء والخصوم أيضاً.
ولهذا قال ابن تيمية «إن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة ولا ينصر الدولة المسلمة الظالمة».
ويشير الأنصاري إلى أن الإسلام لم يفرق بين المرأة والرجل في التكاليف الشرعية، وإن لغة الخطاب القرآني وجهت للاثنين معاً في معظم الحالات، كما في قوله تعالى: «إن المسلمِينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمُؤمناتِ والقانتِين...» إلى قوله: «أَعدَّ اللَّهُ لهمْ مغفرةً وأَجْراً عظيماً» (الأحزاب: 35). كما أبرز الحديث النبوي مكانة المرأة فقال النبي (ص): «خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء»، يعني عائشة (رض)، وقد نقل عنها الرواة الكثير من الأحاديث، وفي خطبة الوداع قال بوضوح «أوصيكم بالنساء خيراً».
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3814 - الخميس 14 فبراير 2013م الموافق 03 ربيع الثاني 1434هـ