إنه الربيع العربي بكل ما فيه مِنْ سَيْلٍ عارمٍ، يجرف معه الصخر بالقدرة ذاتها التي يجرف فيها حشائش الرياض الرخوة. فما عاشته الأجيال طيلة أربعين سنة، أصبح صوراً ممزقة. رؤساءٌ يُسحَلون أو يُنفَوْن، وأنظمة سياسية تتهاوى وعائلات نافذة تُجَرجَر إلى محبسها، ولغة خشبيَّة ملَّها الناس، بات يُتنَدَّر بها صباح مساء.
هذا المشهد مُقلقٌ فعلاً. قَلَقُهُ ليس نابعاً من أصل التغيير السياسي والثقافي، بل من ظروف التغيير، وانفلات جموحه. نعم، تاريخ الثورات في عمومه ليس نُزهَة، بل هو مليء بالأحداث. في أحيان كثيرة، كان التغيير مرادفاً لدمٍ غزير يُرَاق، أو أخطاء جسيمة تُرتَكَب، لكن ذلك الدَّم وتلك الأخطاء، لم يكونا في يوم من الأيام ضرائب «عادية» لأي مشروع تغييري، يتم قبولها والتسليم بها كيفما اتفق، أو التمترس بها لنيْلِ عنوان «الثورة» لا أكثر.
عندما نؤكد أن مفهوم الدولة قد تغيَّر منذ ما قبل ماتزيني وما بعده، وأن النظرة إلى المفاهيم السياسية قد تغيَّرت هي الأخرى، بفعل التطورات الاجتماعية والفتوَّة وحركة الطبقة الوسطى، فإن اللازم الطبيعي يقتضي أن الثورات هي الأخرى يجب أن تتطوَّر كذلك؛ وخصوصاً أنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحالة المجتمعية للشعوب. لذا، فإن الثورات تخطئ حين تُبرِّر لمثالبها لأن تحدث، بذريعة حصول الأخطاء ذاتها في ثورات سابقة.
والحقيقة التي يجب أن نعيها، هي أنه وعندما تتساوى أخطاء الثورات مع أخطاء النظم السياسية، تصبح تلك المثالب «عالة» على نفسها وعلى جمهور التغيير. وعندما تزيد أخطاؤها عن أخطاء مَنْ تقاتلهم من نظمٍ سياسية فاسدة، يصبح صدُّ تلك الأخطاء واجباً؛ لأنه انحراف فكري ومسلكي، وداءٌ نفسي. وعندما تقلُّ أخطاؤها عن أخطاء النظام «السيئ» يمكن قبولها بشرط تصويبها اللازم. فالثورات ليست عملاً صحيحاً بالكليَّة، بل هي نشاطٌ قابلٌ للشطط والزلل، وبالتالي يُصبح تنبيهها جزءًا من بقائها وليس هدماً أو خيانة لها، كما يعتقد البعض من أصحاب العقول الناشفة والأمزجة الفجة.
وربما الفارق الرئيسي بين تاريخ الثورات القديم والحديث وموقع الخطأ بينهما، هو في مسألة تشكُّل الرأي العام ومداه داخل حركة الثورة وتفاعلاتها. ففي القِدَم، كانت الثورة تندلع في بقع جغرافية مُحدَّدة، نتيجة لظلم أحد الإقطاعيين، أو الاستهداف العرقي أو الديني، لتبقى هذه الثورة الرافضة حبيسة مكانها حتى تسري إلى أماكن أخرى. وهذا السَرَيَان، يحتاج إلى شهور وربما سنوات حتى يتمدَّد بفعل غياب وسائل الاتصال السريعة.
لذا، كان الرأي العام في الثورات السابقة جنينياً في حجمه وصوته، وبالتالي لم يكن قادراً على فرض واقع معيّن على الحراك الاجتماعي أو السياسي بين عموم الناس ونخبهم. والجميع يتذكر، أن الكثير من الفرنسيين في بيرون لم يصلهم خبر سقوط سجن الباستيل إلاَّ بعد ثمانية وعشرين يوماً رغم أنهم لا يبعدون عن باريس سوى بـ 133 كم!
هذا الأمر ينسحب أيضاً على موضوع الموقف من أخطاء الثورات. والحقيقة، أن مثل تلك المواقف، تتبلور من خلال التشاركية والاحتكاك السياسي والثقافي، والنقاش العام في أوساط البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، وفي أوساط الكادحين، الذين هم أكثر الناس صلةً بظروف التغيير وجموحه المنفلت.
قرأتُ الثورة الفرنسية قراءةً أدَّعي أنها جيدة، وبها إحاطة مُركَّزة.
وعندما أرى فرنسا اليوم وهي تعيش «جمهوريتها العريقة» بعد مئتين وأربعة وعشرين عاماً، أستطيع أن أقول ان الثورة الفرنسية أنتَجَت نظاماً سياسياً ديمقراطياً، وهوية متماسكة، مقارنة ببقية الهويات الأوروبية المتشظية، ومنظومة حقوقية راقية، وصَوْناً لحرية الإنسان.
لكن، مَنْ منا تفكَّر في الأيام الذي تَلَتْ الثورة، وماذا قدَّم الفرنسيون من أجلها من تضحيات برِضا أو بغير رضا؟ هل استحضر أحدٌ أرواح سبعة عشَر ألف فرنسي أعدمتهم الثورة بعد انتصارها، في بحر سنة وشهرين، والتصفيات الدموية التي جرت أثناء حكم الإرهاب، للنبلاء النورمانديين والأرستقراطيين بغير رحمة وبلا حساب حتى؟ هل تفكَّر أحدٌ عن مجريات «الحقبة النابليونية»، والنزعة التوسُّعية التي كانت تحملها فرنسا (بحجَّة تكريس الواقع الثوري)، والتحالفات التي كانت تعقدها مع يعاقبة هولندا وإيطاليا والدويلات الألمانية، وما خلفه ذلك من ارتهان لواقع امبريالي ليس له علاقة بالثورية؟! لم يكن أمراً سهلاً أن يتقبل ذلك الفرد الفرنسي، ونخبته الثقافة حتى.
أيضاً، قد نستعيد ما خلفته الثورة الزراعية الصينية من ضحايا، والتي قدَّم الشعب الصيني في سبيلها ثلاثة ملايين إنسان بغية الهندسة الاجتماعية المتطرفة للماوية! اليوم الصين دولة عظمى في الاقتصاد. وهي وازِنٌ ومحور أساسي لأموال العالم، بل وحتى للولايات المتحدة نفسها، والتي تسيطر اليوم على أربعين في المئة من اقتصاد الدنيا. لكن على الجميع أن يتذكَّر قسوة الماويَّة حينها على الفرد الصيني وما يقولونه اليوم بشأنها حتى في أوساط الحزب الشيوعي الصيني.
هذه الأرقام لا نستحضرها لكي نُحملِق فيها فقط، لكننا نذكرها لكي لا نكرّر أخطاءها. نعم، الثورات والانتفاضات ومشاريع التغيير عليها أن تدفع أكلافاً لنصرها، لكن تلك الأكلاف يجب ألاَّ تزيد عن الأوزان الطبيعية للمجتمع وطاقته المفترضة، وبالتالي إحداث رضَّات مادية ومعنوية بداخله، فتجعله فاقداً الثقة بمعايير التغيير وبمآلاته أيضاً.
أساس الثورات هي لتخليص الناس من واقع هم رافضون له، وجزء كبير من شرعية الثورة نابعة من قبولهم لها. لكن، وعندما تنحرف الثورة، بفرضها واقعاً مُنفِّراً، سواءً من حيث قسوته ومَسِّهِ للناس وحرياتهم الفردية والعامة، وتحميلهم أوزاناً لا طاقة لهم بها، تفقد الثورة حواضنها الشعبية، وقيمتها الأخلاقية، وبالتالي شرعيتها. وربما يفتح لنا هذا النقاش الباب لطرق أمريْن اثنين لهما وشيجة قوية بما نقوله، يمكن التطرق إليهما في مقال لاحق.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3813 - الأربعاء 13 فبراير 2013م الموافق 02 ربيع الثاني 1434هـ
أصبت أستاذ
أصحاب العقول الناشفة و الأمزجة الفجة . ياليت أستاذ في مقال تقول لنا هل هناك وجة تقارب بين المناضلين في السابق و الحاضر في البحرين ؟
الباسك وكولومبيا
لم يحظى الثوار الباسكيون بتأييد أحد بسبب أخطائهم الجسيمة وكذلك الثورة اليسارية في كولومبيا